Translate

الأحد، 6 يناير 2013

الشورى في عهد الفاروق، بيعة عمر بن الخطاب

لما اشتد المرض بأبي بكر جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميتاً لما بي، وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم فأمروا عليكم من أحببتم؛ فإنكم إن أمرتم في حياتي كان أجدر ألا تختلفوا بعدي، وتشاور الصحابة رضي الله عنهم، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية؛ لذا رجعوا إليه فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبوبكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبوبكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم، على ذلك يا أبا عبد الله، فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبوبكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عَدَوْتُك ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته، فقال لأبي بكر: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبوبكر: أجلسوني أبالله تخوفونني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول اللهم استخلف عليهم خير أهلك، وبين لهم سبب غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه، ثم كتب عهداً مكتوباً يقرأ على الناس في المدينة وفي الأمصار عن طريق أمراء الأجناد، فكان نص العهد: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبوبكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه وإن بدل فلكل امرى. ما اكتسب والخير أردت ولا أعلم الغيب:" إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ " (الشعراء, آية: 227).
وأراد الصديق أن يبلغ الناس بلسانه واعياً مدركاً، حتى لا يحصل أي لبس، فأشرف أبوبكر على الناس وقال لهم: أترضون بمن استخلف عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا سمعنا وأطعنا.
وتوجه الصديق رضي الله عنه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه، وهو يقول: اللهم وليته بغير أمر نبيك ولم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، واجتهدت لهم رأيي، فوَّليت عليهم خيرهم، وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك.
وكلف أبوبكر عثمان رضي الله عنهما: بأن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر، بعد أن ختمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر، دون أي آثار سلبية وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ قالوا: نعم فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به، فبعد أن قرأ العهد على الناس ورضوا به أقبلوا عليه وبايعوه، واختلى الصديق بالفاروق وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإخلاء ذمته من أي شي؛ حتى يمضي إلى ربه خالياً من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده.
وقد جاء في الوصية: اتق الله يا عمر، وأعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضة وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل غداً أن يكون خفيفاً، وأن الله تعالى، ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف ألا ألحق بهم، وإن الله - تعالى - ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم، وردّ عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم، قلت: إني لأرجوا ألا أكون مع هؤلاء ليكون العبد راغباً راهباً، لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت ولست تُعجزه.

وباشر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعماله بصفته خليفة للمسلمين فور وفاة أبي بكر، كما أن ترشيح أبي بكر الصديق رضي الله عنه لعمر بن الخطاب، لم يأخذ قوته الشرعية إلا بعدما وافق المسلمون على ذلك، وهذا ما تحقق حين طلب أبوبكر من الناس أن يبحثوا لأنفسهم عن خليفة من بعده، فوضعوا الأمر بين يديه، وقالوا له: رأينا إنما هو رأيك،ولم يقّرر أبو بكر الترشيح إلا بعد أن استشار أعيان الصحابة فسأل كل واحد على انفراد، ولما ترجح لديه اتفاقهم أعلن ترشيحه لعمر، فكان ترشيح أبي بكر صادراً عن استقراء لآراء الأمة من خلال أعيانها، على أن هذا الترشيح لا يأخذ قوته الشرعية إلا بقبول الأمة به؛ ذلك أن اختيار الحاكم حق للأمة، والخليفة يتصرف بالوكالة عن الأمة، ولابد من رضا الأصيل؛ ولهذا توجه أبوبكر إلى الأمة: أترضون بمن استخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهدي الرأي ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا، وفي وقول أبي بكر: أترضون بمن استخلف عليكم إشعار بأن الأمر للأمة وأنها هي صاحبة العلاقة والاختصاص.
إن عمر رضي الله عنه ولي الخلافة باتفاق أهل الحل والعقد وإرادتهم؛ فهم الذين وضعوا لأبي بكر انتخاب الخليفة وجعلوه نائباً عنهم في ذلك، فشاور ثم عين الخليفة ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه، وأمضوه ووافقوا عليه، وأصحاب الحل والعقد في الأمة هم النواب "الطبيعيون" عن هذه الأمة، وإذن فلم يكن استخلاف عمر رضي الله عنه إلا على أصح الأساليب الشورية وأعدلها.
إن الخطوات التي سار عليها أبوبكر الصديق في اختيار خليفته من بعده لا تتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الإجراءات المتبعة فيها غير الإجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه، وهكذا تم عقد الخلافة لعمر رضي الله عنه بالشورى والاتفاق، ولم يورد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحداً نهض طول عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق