Translate

السبت، 5 يناير 2013

الشورى في غزوة الأحزاب


3 - الشورى في غزوة الأحزاب:
أ- في حفر الخندق:
تشاور الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في كيفية المواجهة للأحزاب وكان رأي سلمان الفارسي رضي الله عنه بأن يحفر خندقاً حول المدينة لمواجهة الأحزاب، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيه وأمر بحفره واختار مكاناً مناسباً لذلك وهي السهول الواقعة شمال المدينة، إذ كانت هي الجهة الوحيدة المكشوفة أمام الأعداء، واقترن حفر الخندق بصعوبات جمّة، فقد كان الجو بارداً والريح شديدة، والحالة المعيشية صعبة بالإضافة إلى الخوف من قدوم العدو الذي يتوقعونه في كل لحظة ويضاف إلى ذلك العمل المضني حيث كان الصحابة يحفرون بأيديهم وينقلون التراب على ظهورهم، ولاشك في هذا أن هذا الظرف - بطبيعة الحال - يحتاج إلى قدر كبير من الحزم والجد ولكن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الظرف: يعلم أن هؤلاء الجند إنما هم بشر كغيرهم، لهم نفوسٌ بحاجة إلى الرّاحة من عناء العمل، كما أنها بحاجة إلى من يدخل السُّرور عليها حتى تنسى تلك الآلآم التي تعانيها فوق معاناة العمل الرئيسي ولهذا نجد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا وصَلَّينا
فأنزل سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأُلى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أَبينا

ثم يمد صوته بآخرها.
وعن أنس رضي الله عنه: أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون يوم الخندق:
نحن الذين بايعوا محمداً ... على الإسلام ما بقينا أبداً
لقد كان لهذا التبسط، والمرح في ذلك الوقت أثره في التخفيف عن الصحابة ممّا يعانونه نتيجة للظروف الصعبة التي يعيشونها، وكما كان له أثره في بعث الهمّة والنشاط بإنجاز العمل الذي كُلفَّوا بإتمامه، قبل وصول عدوَّهم ولقد نال صحاب فكرة الخندق وساماً عظيماً بقي خالد على مّر الدهور لم يفصلها عنا حواجز الزمن ولا أسوار القرون، فقد قال المهاجرون يوم الخندق سلمان منّا، وقالت الأنصار: سلمان منَّا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت. وهذا الوسام النبوي الخالد لسلمان يشعر بأن سلمان من المهاجرين؛ لأنَّ أهل البيت من المهاجرين.
ب- الشورى في محاولة الصلح مع غطفان:
حاول النبي صلى الله عليه وسلم تخفيف حدّة حصار الأحزاب للمدينة بعقد صلح مع غطفان بالذات لمصالحتها على مال يدفعه إليها على أن تترك محاربته، وترجع إلى بلادها فهو يعلم صلى الله عليه وسلم: أن غطفان وقادتها ليس لهم من وراء الاشتراك من هذا الغزو أيَّ هدف سياسي يريدون تحقيقه أو باعث عقائدي يقاتلون تحت رايته، وإنما كان هدفهم الأوّل والأخير من الاشتراك في هذا الغزو الكبير هو الحصول على المال بالاستيلاء عليه من خيرات المدينة عند احتلالها، ولهذا لم يحاول الرّسول صلى الله عليه وسلم الاتصال بقيادة الأحزاب من اليهود، كحيي بن أخطب وكنانه بن الربيع أو قادة قريش كأبي سفيان بن حرب، لأن هدف أولئك الرّئيسي لم يكن المال، وإنما كان هدفهم هدفاً سياسيّاً، وعقائديا يتوقف تحقيقه والوصول إليه على هدم الكيان الإسلامي من الأساس، لذا فقد كان اتصاله "فقط" بقادة عطفان الذين "فعلاً" لم يتردَّدوا في قبول العرض الذي عرضه عليهم النبي صلى الله عليه وسلم. فقد استجاب القائدان الغطفانيان "عيينه بن حصن، والحارث بن عوف" لطلب النبي صلى الله عليه وسلم، وحضرا مع بعض أعوانهما إلى مقرَّ قيادة النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمعا به وراء الخندق مستخفين دون أن يعلم بهما أحد، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مفاوضتهم وكانت تدور حول عرض تقدم به رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيه إلى عقد صلح منفرد بينه، وبين غطفان، وأهمُّ البنود التي جاءت في هذه الاتفاقية المقترحة.
- عقد صلح منفرد بين المسلمين وغطفان الموجودين ضمن جيوش الأحزاب.
- توادع غطفان المسلمين، وتتوقف عن القيام بأيَّ عمل حربيَّ ضدهم.
- يدفع المسلمون لغطفان "مقابل ذلك" ثلث ثمار المدينة كلَّها من مختلف الأنواع.
وقبل عقد الصلح مع غطفان شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة في هذا الأمر، فكان رأيهم عدم إعطاء غطفان شيئاً من ثمار المدينة، وقال السَّعدان: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة؛ يا رسول الله؛ أمراً تحبه، فتضعه أم شيئاً أمرك الله به لابدَّ لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ فقال: بل شيءٌ أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنَّي رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم - أي: اشتدوا عليكم - من كلَّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنَّا وهؤلاء على الشرك بالله، وعبادة الأوثان، لا نعبد الله، ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرىً - أي: الطَّعام الذي يُضع للضيف - أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزّنا بك، وبه، نعطيهم أموالنا؟ مالنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السَّيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت وذاك.
فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليَجْهدوا علينا كان رد زعيمي الأنصار: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في غاية الاستسلام لله تعالى، والأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته، فقد جعلوا أمر المفاوضة مع غطفان ثلاثة أقسام.
الأول: أن يكون هذا الأمر من عند الله تعالى، فلا مجال لإبداء الرّأي بل، لابدَّ من التسليم، والرَّضا.
الثاني: أن يكون شيئاً يحبُّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، باعتباره رأيه الخاص، فرأيه مقدَّمُ وله الطاعة في ذلك.
الثالث: أن يكون شيئاً عمله الرّسول صلى الله عليه وسلم لمصلحة المسلمين من باب الإرفاق بهم، فهذا هو الذي يكون مجالاً للرّأي.
ولما تبين للسعدين من جواب الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه أراد القسم الثالث: أجاب سعد بن معاذ بجواب قويَّ، كبت به زعيمي غطفان، حيث بيَّن أن الأنصار لم يذلُّوا لأولئك المعتدين في الجاهلية، فكيف وقد أعزَّهم الله تعالى بالإسلام؟ وقد أعُجب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بجواب سعد، وتبَّين له منه، إرتفاع معنويّة الأنصار، واحتفاظهم بالرّوح المعنويّة العالية فألغى بذلك ما بدأ من الصُّلح مع غطفان.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: إني قد علمت: أنّ العرب قد رمتكم عن قوس واحدة.
دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستهدف من عمله ألا يجتمع الأعداء عليه صفاً واحداً، وهذا يرشد المسلمين إلى عدّة أمور منها:
- أن يحاول المسلمون التفتيش عن ثغرات القوى المعادية.
- أن يكون الهدف الاستراتيجي للقيادة المسلمة تحييد من تستطيع تحييده، ولا تنسى القيادة الفتوى، والشورى والمصلحة الآنية والمستقبلية للإسلام.
وفي استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم للصَّحابة يتبين لنا أسلوبه في القيادة، وحرصه على فرض الشورى في كلَّ أمر عسكري يتصل بالجماعة، فالأمر شورى، ولا ينفرد به فرد حتىّ ولو كان هذا الفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دام الأمر في دائرة الاجتهاد، ولم ينزل به وحي إن قبول الرسول صلى الله عليه وسلم رأي الصحابة في رفض هذا الصلح يدل على أن القائد الناجح هو الذي يربط بينه وبين جنده رباط الثقة، حيث يعرف قدرهم ويدركون قدره، ويحترم رأيهم ويحترمون رأيه، ومصالحة النبي صلى الله عليه وسلم مع قائدي غطفان تعد من باب السياسة الشرعية التي تراعي فيها المصالح والمفاسد حسب ما تراه القيادة الرشيدة  للشعوب.
ففي هذه النازلة نجد النبي صلى الله عليه وسلم قد فكر ودبر، وهيأ حلاً يخفف به محنة المسلمين، وفاوض وانتهى إلى اتفاق أولي مع زعماء غطفان لكنه، قبل إمضائه وتنفيذه، عرضه للشورى، وانتهى به الأمر إلى التخلي عن رأيه وتدبيره، والأخذ برأي مستشاريه الذين يمثلون جمهور المسلمين من أهل المدينة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق