Translate

الجمعة، 21 ديسمبر 2012

تدوين الدستور في الإسلام


ثانيا: تدوين الدستور في الإسلام: اتضح مما سبق أن الأحكام الدستورية الإسلامية قسمان، قسم ثابت وقسم غير ثابت، وعليه فإن الأحكام والقواعد الثابتة لا تتغير مدى الزمن، سواء دونت فيما يسمى بوثيقة الدستور أم لم تدون، بل لم يثبت تدوينها على مر التاريخ الإسلامي، إذ ليس هناك حاجة إلى تدوينها ما دامت ثابتة في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين والمفترض أن الدولة الإسلامية يتوفر فيها العلماء والفقهاء الذين يهدون مسيرتها الدستورية ويستندون إلى هذه المصادر.
وسواء دونت هذه الأحكام أم لا فإن لها السمو على جميع القوانين والأحكام دستوريها وغير دستوريها؛ لأنها وحي من الله لا يسمو فوق حكمه حكم.
فالبحث في تدوين الدستور إنما هو لدولة إسلامية معينة بما يحتويه من أحكام غير ثابتة؛ لأنها تختلف من دولة لأخرى، ولأنها هي التي يجب أن يحتويها الدستور، أما الأحكام الثابتة فإن تدوينها في دستور دولة معينة أمر لا لزوم له كما سبقت الإشارة إليه؛ لأن هذه الأحكام ثابتة في آيات القرآن وتفسيرها والأحاديث وشروحها، ومباحث الفقه وأصوله؛ ولأن هذه الدولة الإسلامية يجب أن تلتزم في دستورها بأحكام الشرع وأن لا تخالفها، وبالتالي فلها أن تعد دستورها وفق ظروفها، موافقة في ذلك شرع الله، ويحتوي هذا الدستور الأحكام الخاصة بدستور هذه الدولة.
وفي هذا المجال نجد بعض الباحثين في شأن الدستور الإسلامي يرى أن هناك تدوينا للدستور في بعض العصور، ويمثل بالوثيقة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة، ويعتبرها دستورا للدولة في ذلك العصر، موافقا لظروف ومتطلبات الوقت الذي وضع فيه، والحقيقة أن هذه الوثيقة تحوي أحكاما دستورية تعالج بعض القضايا الدستورية في ذلك الوقت الذي وضعت فيه، ويمكن الاستئناس بها عند تدوين أي دستور لدولة إسلامية، ولكنها ليست دستورا كاملا بمعنى الدستور الفني أو الخاص بل هي وثيقة دستورية لها أهميتها في تاريخ الدولة الدستورية. ولم يثبت بعد هذه الوثيقة تدوين يشبهها لأحكام دستورية في الدولة الإسلامية، بل استمر العمل بالرجوع إلى الأحكام الثابتة، واستنباط أحكام جديدة لما يستجد من وقائع، والتعارف على أعراف معينة غير مخالفة لأحكام الشريعة  تستقر لفترة من الزمن، حتى بدأت حركة تدوين الدساتير في الدول الإسلامية بإعلان الدستور التونسي عام 1276هـ الموافق 1861م ثم الدستور العثماني عام 1293هـ الموافق 1876م. اللذين يمكن اعتبارهما أول دستورين إسلاميين بمعنى الدستور الخاص تم تدوينهما .
ويستنتج من ذلك وفقا للمعنى الخاص للدستور أنه من الممكن أن توجد دساتير مدونة في بعض الدول الإسلامية وأخرى غير مدونة، أو توجد بعض قواعد الدستور مدونة وبعضها الآخر غير مدون، أي أنه ليس هناك إلزام بتدوين الدستور في النظام الإسلامي، ولا إلزام بعدم التدوين، وأن ذلك راجع لما تستقر عليه الآراء في الدولة الإسلامية وللظروف المتغيرة، بحيث قد يكون الأفضل في جهات متعددة التدوين صيانة لحقوق عامة للمسلمين واستئناسا بتوثيق التداين، {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]  واستئناسا بتدوين السنة مع ورود نصوص تصرف عن ذلك وبالوثيقة النبوية التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة المنورة.
وقد لا يحتاج إلى التدوين في جهات وأزمان معينة إذا أمن جانب صيانة حقوق عامة المسلمين وترجحت مراعاتها، فليس المهم في النظام الإسلامي النظر إلى الشكل ولكن المهم هو المضمون، وهو وجود قواعد دستورية راسخة وصريحة متمشية مع حكم الله، تضمن للحاكم والمحكوم حقوقهما على حد سواء، وليس ضروريا بعد ذلك أن تكون هذه القواعد مدونة في وثيقة تسمى الدستور أو تكون غير مدونة.
ثم إن الدستور بمعناه الخاص في الدولة الإسلامية قد يكون ثابتا أو مرنا حسب ظروف كل دولة، وما يستقر الرأي الدستوري فيها عليه من أمر بهذا الخصوص، ولا علاقة بين تدوين الدستور وثباته، فقد يكون الدستور مدونا ومرنا، وقد يكون ثابتا وهو غير مدون، والعكس كذلك، وهذا الثبات الذي أشير إليه هنا متعلق بالدستور بمعناه الفني أو القانوني، وبالتأكيد فإن الثبات هنا هو ثبات نسبي.
وفي حالة تدوين دستور معين لدولة إسلامية، يجب النص على أن الحكم لله وحده، وأن السيادة المطلقة لله {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]  .
وإن التشريع الملزم هو من عند الله {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]  .
كما أنه لا يفضل وضع نص قرآني ضمن مواد الدستور؛ لأن مواد الدستور من طبيعتها التغير، وليس ذلك من طبيعة نصوص القرآن؛ ولأن النصوص القرآنية فوق النصوص الدستورية وبالتالي فإن وضعها مادة في الدستور إنقاص من شأنها، وإنما يستخلص الحكم الدستوري من الآية، ويذكر أن ذلك استنادا إلى الآية كذا، ومثال ذلك عندما يراد أن ينص على أن الشورى أساس من أسس الحكم، لا توضع آية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]
مادة كبقية المواد، وإنما يقال مثلا: " إن الشورى أساس من أسس الحكم "، ثم تفصل كيفية الشورى ونطاقها وفق ظروف الواقعة.
والخلاصة: أن تدوين الدستور في الدولة الإسلامية ليس بضرورة، فالأمر فيه متروك للحاجة والمصلحة، ويتأكد التدوين عند قلة العلماء المجتهدين، وضعف الوازع الديني لدى المؤسسات الدستورية، والخوف على حقوق عامة المسلمين. وعدم تدوين الدستور في الدولة الإسلامية لا يعني عدم وجود المؤسسات الدستورية، فوجودها غير مرتبط بالتدوين أو عدمه؛ لأن وجودها مرتبط بوجود الدولة الإسلامية ذاتها.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق