Translate

السبت، 29 ديسمبر 2012

الشورى الإسلامية‮ .. ‬والديمقراطية الغربية، د. محمد عمارة


الشورى‮ : ‬مصطلح إسلامى خالص وأصيل‮ .. ‬وهو اسم‮ - ‬من‮ "‬المشاورة‮" - ‬التى تعنى‮ ‬،‮ ‬فى اصطلاح العربية‮ : ‬استخراج الرأى‮ " ‬فهى فعل إيجابى،‮ ‬لا‮ ‬يقف عند حدود‮ "‬التطوع‮" ‬بالرأى‮"‬،‮ ‬بل‮ ‬يزيد على‮ "‬التطوع‮" ‬إلى درجة‮ "‬العمل‮" ‬على استخراج الرأى استخراجا،‮ ‬واستدعائه قصدا؟‮! .. ‬وإذا قلنا‮: ‬أشار فلان على فلان بالرأى‮ .. ‬فإن معناه‮ - ‬فى اصطلاح العربية‮ - : ‬أمره به‮ ! "‬وليس مجرد إبراء الذمة بإلقاء الرأى فقط؟‮!..‬والشورى،‮ ‬فى الفكر السياسى الإسلامى،‮ ‬هى فلسفة نظام الحكم‮ .. ‬والاجتماع‮.. ‬والأسرة‮ .. ‬لأنها تعنى إدارة أمر الاجتماع الإنسانى،‮ ‬الخاص والعام،‮ ‬بواسطة الائتمار المشترك والجماعى،‮ ‬الذى هو سبيل الإنسان للمشاركة فى تدبير شئون هذا الاجتماع‮. ‬فالشورى،‮ ‬أى الائتمارالمشترك،‮ ‬هى السبيل إلى الإمارة،‮ ‬أى القيادة والنظام والسلطة والسلطان‮.. ‬إمارة الإنسان فى الأسرة‮ .. ‬وفى المجتمع‮ .. ‬وفى الدولة‮ .. ‬أى فى تنظيم المجتمع وحكمه،‮ ‬صغيرا كان المجتمع أو كبيرا.ولما كان التصور الفلسفى الإسلامى لوجود الإنسان فى هذه الحياة،‮ ‬ولوظيفته ومكانته فيها،‮ ‬ولعلاقته بالآخرين‮ ‬،‮ ‬قائما على حقيقة أن هذا الإنسان مخلوق لله سبحانه وتعالى،‮ ‬ومستخلف عنه فى عمارة الكون،‮ ‬كانت مكانة الإنسان فى العمران هى مكانة الخليفة عن الله‮ .. ‬فهو ليس سيد الكون حتى تكون حريته مطلقة،‮ ‬دون حدود،‮ ‬وشوراه وائتماره وإمارته وسلطته دون ضوابط وأطر‮.. ‬وفى ذات الوقت فإن خلافته عن الله سبحانه تعنى وتقتضى أن تكون له سلطة وإرادة وحرية وشورى وإمارة تمكنه من النهوض بتكليف العمران لهذا الوجود‮.. ‬فهو‮ ‬،‮ ‬لهذا،‮ ‬ليس الكائن المجبر المسير المهمش بإطلاق‮ .‬

بل إنه فى المكانة الوسط‮.. ‬ليس سيد الكون‮ .. ‬وليس العبد المجرد من الحرية والارادة والاستقلال والمسئولية‮ .. ‬وإنما هو الخليفة عن سيد الكون،‮ ‬وله فى إطار عقد وعهد الاستخلاف السلطات التى تمكنه من النهوض بمهام هذا الاستخلاف‮..‬

وانطلاقا من هذه الفلسفة الاسلامية،‮ ‬فى مكانة الإنسان فى هذا الوجود،‮ ‬يتميز المذهب الإسلامى فى‮ "‬إطار الشورى‮" .. ‬فبنود عقد وعهد الاستخلاف الإلهى،‮ ‬التى هى قضاء الله الحتمى فى كونه‮ .. ‬وكذلك أحكامه التى جعلها إطارا حاكما لحرية الإنسان وسلطاته‮ .. ‬هى‮ "‬الوضع الإلهى‮" ‬الذى تظهر فيه عبودية المخلوق للخالق،‮ ‬وقضاء الله الذى لا شورى فيه ولا خيار ولا اختيار‮ (‬وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن‮ ‬يكون لهم الخيرة من أمرهم‮ ‬،‮ ‬ومن‮ ‬يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا‮) ‬الأحزاب‮ : ‬36‮ .‬

هنا‮ ‬،‮ ‬وفيما‮ ‬يتعلق بهذا الإطار الحاكم،‮ ‬نحن أمام‮ "‬سيادة الله‮.. ‬وحاكميته‮". ‬المتمثلة فى قضائه الحتمى،‮ ‬وشريعته الممثلة لبنود عقد وعهد الاستخلاف‮ .. ‬على الخليفة أن‮ ‬يجعلها الإطار الحاكم لحريته وشوراه‮ ‬،‮ ‬ولسلطته وإمارته،‮ ‬ولحركته أثناء قيامه بالوكالة والاستخلاف‮.‬

أما ما عدا ذلك من الشئون‮ ‬،‮ ‬التى هى مقدورة للقدرة الإنسانية،‮ ‬ولازمة للتنفيذ وتطبيق وتفصيل كليات عقد وعهد وأمانة الاستخلاف‮ .. ‬فإنها موضع وموضوع للشورى البشرية،‮ ‬وموضع وموضوع لسلطان الإنسان وسلطاته‮ .. ‬فهو حر،‮ ‬ومصدر للسلطة وللسلطان،‮ ‬اللذين‮ ‬يقيم دعائمهما بالشورى،‮ ‬فى إطار الحلال والحرام‮.. ‬إنه الوكيل الحر،‮ ‬الذى‮ ‬يدبر شئون الوكالة بالشورى،‮ ‬شريطة أن لا‮ ‬يتعدى إطار عقد التوكيل‮!.‬

هذا عن إطار الشورى فى فكر الإسلام السياسى وفلسفته فى الاجتماع الإنسانى‮.. ‬إن قضاء الله وأمره‮. ‬سيادة وحاكمية إلهية‮.. ‬أما قضاء الناس وأمرهم فهو شورى بينهم،‮ ‬يقيمون بها إمارتهم وسلطتهم فى مختلف دوائر الاجتماع‮.. ‬من الأسرة‮.. ‬إلى المؤسسة‮ .. ‬إلى المجتمع‮ .. ‬إلى الدولة‮".. ‬إلى الاجتماع الإنسانى ونظامه الدولى‮!..‬

ففى مجتمع الأسرة‮ ‬،‮ ‬يعتمد الإسلام الشورى فلسفة للتراضى المؤسسة عليه المودة والنظام والانتظام‮ ..(‬والوالدات‮ ‬يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن‮ ‬يتم الرضاعة،‮ ‬وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها‮ ‬،‮ ‬لا تضار والدة بولدها ولامولود له بولده،‮ ‬وعلى الوارث مثل ذلك،‮ ‬فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما،‮ ‬وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف،‮ ‬واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير‮) ‬البقرة‮: ‬233‮ .‬

‮ ‬وفى شئون الدولة‮ ‬يوجب الإسلام أن تكون الشورى هى الفلسفة التى تدار وفقا لها أمور الناس‮ (‬فبما رحمة من الله لنت لهم ولوكنت فظا‮ ‬غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر،‮ ‬فإذا عزمت فتوكل على الله،‮ ‬إن الله‮ ‬يحب المتوكلين‮) ‬آل عمران‮ : ‬159‮ .‬

فالعزم‮ ‬،‮ ‬أى اتخاذ القرار،‮ ‬هو ثمرة للشورى،‮ ‬أى اشتراك الناس فى إنضاج الرأى الذى‮ ‬يتأسس عليه العزم‮ - ‬القرار‮-.. ‬وهذا هو الذى جعل مفسرى القرآن‮ ‬يقولون،‮ ‬فى تفسيرهم لهذه الآية‮ - ‬بلسان واحد من أئمتهم‮ - ‬ابن عطية‮ (‬481‮- ‬542هـ‮ ‬1088‮ -‬1148م‮): "‬إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام،‮ ‬ومن لا‮ ‬يستشيرأهل العلم والدين فعزله واجب‮" ‬وهذا مما لاخلاف فيه‮.."! ‬فهى من قواعد الشريعة‮.. ‬ومن عزائم الاحكام،‮ ‬أما أهلها‮ ‬،‮ ‬فهم كل من هو أهل لها،‮ ‬بحسب موضوعها‮ ‬،‮ ‬وما‮ ‬يتطلبه الموضوع من خبرات‮. ‬ولذلك كانت كلمات‮ "‬ابن عطية تتحدث عن استشارة أهل‮ "‬العلم‮" ‬و"الدين‮" ‬وليس‮ ‬،‮ ‬فقط اهل الدين‮ "!‬

وإذا كانت المشاورة هى استخراج الرأى،‮ ‬الذى‮ ‬يتأسس عليه العزم والقرار‮.. ‬فلقد جعل الإسلام‮ "‬العصمة‮" ‬للأمة،‮ ‬فقال الرسول،‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮:"‬إن أمتى لا تجتمع على ضلالة‮" - ‬رواه ابن ماجة‮ - ‬وذلك لتطمئن القلوب إلى حكمة وصواب القرار إذا كان مؤسسا على شورى الأمة فى أمورها‮ .. ‬ومن هنا كانت الشورى صفة من صفات المؤمنين‮! (‬فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم‮ ‬يتوكلون‮. ‬والذين‮ ‬يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما‮ ‬غضبوا هم‮ ‬يغفرون‮. ‬والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم‮ ‬ينفقون،‮ ‬والذين إذا أصابهم البغى هم‮ ‬ينتصرون‮) ‬الشورى‮: ‬36‮ - ‬39

بل إنها‮ - ‬الشورى‮ - ‬واحدة من أخص صفات رسول هذه الأمة‮ ‬،‮ ‬عليه الصلاة والسلام‮.. ‬وفيما‮ ‬يرويه أبو هريرة،‮ ‬عن صفات الرسول‮ ‬،‮ ‬يقول‮ :"‬ما رأيت أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله‮" - ‬رواه الترمذى‮-..‬

ولقد كان الصحابة،‮ ‬فى دولة الإسلام الأولى،‮ ‬التى قادها النبى والرسول،‮ ‬صلى الله عليه وسلم،‮ ‬دائمى السؤال عن طبيعة القرار‮ "‬أهو الوحى؟‮"- ‬فيكون من وضع الله وقضائه وأمره‮ - "‬أم الرأى والمشورة"؟‮- ‬فتكون فيه المراجعة والشورى،‮ ‬التى‮ ‬يتأسس عليها العزم والقرار‮! ‬فكأنهم‮ ‬يسألون عن‮ "‬طبيعة الاختصاص فى القرار‮.. ‬أهى‮ "‬السيادة والهيمنة‮" ‬أم‮ "‬السلطة البشرية"؟؟ وعندما كان‮ ‬ينبئهم الرسول بأنه الوحى‮" ‬كانوا‮ ‬يلتزمون التزام السمع والطاعة لله ولرسوله‮".‬

أما إذا كان الرأى والمشورة‮ ".. ‬فإن الالتزام‮ ‬يكون بثمرات الشورى،‮ ‬ليس بالنسبة لهم فقط،‮ ‬بل وبالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم‮.. ‬لأنه فى هذه الأمور‮ "‬مجتهد"لا‮  "‬مبلغ‮".. ‬وفى ضوء هذه الحقيقة الاسلامية نفهم معنى قوله،‮ ‬صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وعمر‮ :"‬لو اجتمعتما فى مشورة ما خالفتكما‮!" ‬رواه الإمام أحمد‮ - .. ‬وقوله‮ :"‬لو كنت مؤتمرا أحدا دون مشورة المؤمنين لأمرت ابن أم عبد‮..(‬عبد الله بن مسعود‮) .. "‬رواه الترمذى وابن ماجة والإمام أحمد‮..‬

فجميع أمور الناس وسائر الدنيا‮ ‬،التى لم‮ ‬يقض فيها الله،‮ ‬سبحانه وتعالى،‮ ‬قضاء قطعى الدلالة والثبوت،‮ ‬هى شورى بين أهل الشورى‮.. ‬وفى مقدمة هذه الأموردولة الإسلام والمسلمين‮."‬فالرسول المعصوم فى البلاغ‮ ‬عن الله‮ ‬،‮ ‬سبحانه وتعالى‮ ‬،‮ ‬هو فى شئون الدولة حاكم‮ "‬مجتهد‮"‬،‮ ‬وهو لا‮ ‬يولى واليا"دون مشورة المؤمنين‮:! ‬وعمر بن الخطاب هو القائل‮ " ‬من بايع أمير من‮ ‬غير مشورة المسلمين فلا بيعة له،‮ ‬ولا بيعة للذى بايعه‮! .. ‬فالخلافة شورى؟‮!.." ‬وولاية الأمر فى الإسلام جماعية،‮ ‬ولذلك تحدث القرآن عن‮ (‬أولى الأمر‮) ‬بصيغة الجمع‮ .. ‬ولم تذكر آياته‮ "‬ولاية الأمر‮" ‬بصيغة المفرد أبدا‮)..‬تلك هى الشورى الإسلامية

‮- ‬فلسفة الاجتماع الإسلامى‮ .. ‬فى الأسرة‮ .. ‬والمجتمع‮ .. ‬والدولة‮..‬

‮- وإطارها وميدانها‮ ‬،‮ ‬كل مالم‮ ‬يقض الله فيه قضاء حتم وإلزام للإنسان‮ ‬،‮ ‬مما ترك له كخليفة عن الله فى عمران هذا الوجود‮".‬

‮- ‬والأمة فيها وبها هى مصدر السلطة والسلطان فى سياسة الدولة وتنظيم المجتمع وتنمية العمران‮ ..

‮- ‬وهذه الأمة تختار ممثليها العارفين‮ "‬بالواقع‮" ‬و"بالشريعة‮" ‬معا‮ .. ‬وهم أهل الاختيار‮ ‬،‮ ‬الذين‮ ‬يختارون رأس الدولة الإسلامية‮.. ‬وكذلك أهل الحل والعقد‮- ‬أى أهل الشوكة والرأى‮- ‬الذين‮ ‬يحفظون اتساق‮ "‬الواقع‮" ‬مع‮ "‬الشريعة‮" ‬بتطوير‮ "‬القانون‮- ‬فقه الفروع‮" ‬ليواكب الواقع الجديد‮.. ‬وبتطويع‮ "‬الواقع‮" ‬كى لا‮ ‬يخرج عن الحلال والحرام‮ - ‬اللذين هما حاكمية الله‮- ..‬أما الديمقراطية‮ ‬Democracy‮   ‬فهى نظام سياسى‮ - ‬اجتماعى‮ - ‬غربى النشأة‮.. ‬عرفته الحضارة الغربية فى حقبتها اليونانية‮.. ‬وطورته نهضتها الحديثة والمعاصرة‮..‬،‮ ‬وهو‮ ‬يقيم العلاقة بين افراد المجتمع والدولة وفق مبدأ المساواة بين المواطنين ومشاركتهم الحرة فى صنع التشريعات التى تنظم الحياة العامة‮ ‬،‮ ‬وذلك استنادا إلى المبدأ القائل بأن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر الشرعية‮.. ‬فالسلطة فى النظام الديمقراطى‮ ‬،‮ ‬هى للشعب،‮ ‬بواسطة الشعب،‮ ‬لتحقيق سيادة الشعب ومقاصده ومصالحه‮ (‬انظر موسوعة السياسة،‮ ‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر،‮ ‬بيروت‮ ‬1981‮).‬

أما‮ "‬النظام النيابى‮" ‬الذى‮ ‬ينوب فيه نواب منتخبون عن الأمة للقيام بمهام سلطات التشريع،‮ ‬والرقابة والمحاسبة لسلطات التنفيذ‮.. ‬فهو من‮ "‬آليات‮" ‬الديمقراطية،‮ ‬التى توسلت بها تجاربها عندما تعذرت‮ "‬الديمقراطية المباشرة‮" ‬التى تمارس فيها الأمة كلها وبشكل مباشر،‮ ‬هذه المهام والسلطات‮ .. ‬توسلت بها إلى تحقيق مقاصد الديمقراطية‮ ..‬وفى التساؤل حول موقف الإسلام من الديمقراطية‮.. ‬وهل هو قابل لها بإطلاق؟‮.. ‬أم رافض لها بإطلاق؟ أم أنه قابل لها مع بعض التحفظات؟‮ ‬يحسن أن ننبه على أن الاسلام‮ .. ‬فى الأمور الحياتية‮ .. ‬والنظم والآليات التى تحقق مقاصده وفلسفاته‮ - ‬ليس مغلقا ضد كل ماهو‮ "‬وافد‮" ‬و"أجنبى‮"‬،‮ ‬كما أنه ليس بالذى‮ ‬يقبل أى‮ "‬وافد‮" ‬دونما نظر واجتهاد‮ .. ‬وإذا كان الاجتهاد فريضة دينية فى الفكر الاسلامى،‮ ‬فمن باب أولى أن‮ ‬يكون هذا الاجتهاد واردا فى الفكر الديمقراطى؟‮!..‬

وإذا كان البعض‮ ‬يضع‮ "‬الشورى‮" ‬الاسلامية بديلا للديمقراطية‮ ‬،‮ ‬فإن النظرة الاسلامية الموضوعية والفاحصة للعلاقة بين الشورى والديمقراطية تنفى تناقضهما بإطلاق‮ .. ‬أو تطابقهما بإطلاق وتزكى التمييز بينهما على النحو الذى‮ ‬يكشف مساحة الاتفاق ومساحة الاختلاف بينهما‮ .‬

فمن حيث الآليات والسبل والنظم التى تحقق المقاصد والغايات من كل من الديمقراطية والشورى،‮ ‬فإنها تجارب وخبرات إنسانية ليس فيها ثوابت مقدسة‮.. ‬عرفت التطور فى التجارب الديمقراطية،‮ ‬وتطورها وارد فى تجارب الشورى الإسلامية،‮ ‬وفق الزمان والمكان والملابسات‮ .. ‬والخبرة التى حققتها تجارب الديمقراطية فى تطور الحضارة الغربية‮ ‬،‮ ‬والتى أفرزت النظام النيابى،‮ ‬والتمثيل عبر الانتخابات هى خبرة‮ ‬غنية وثروة إنسانية،‮ ‬لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنها تطوير لما عرفته حضارتنا الاسلامية ومبكرا من آليات‮ "‬البيعة وتجاربها‮".‬

أما الجزئية التى تفترق فيها الشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية فإنها لاتكاد تعدو الخلاف حول‮ :‬لمن السيادة فى التشريع ابتداء ؟؟‮ ..‬

فالديمقراطية تجعل‮ "‬السيادة‮" ‬فى التشريع ابتداء للشعب والأمة‮.. ‬إما صراحة‮ .. ‬وإما فى صورة ما سماه بعض مفكريها‮ "‬بالقانون‮ "‬الطبيعى‮" ‬،‮ ‬الذى‮ ‬يمثل بنظرهم أصول الفطرة الانسانية‮".‬

‮"‬فالسيادة‮"‬،‮ ‬وكذلك‮ "‬السلطة‮" ‬فى الديمقراطية هى للإنسان‮ - ‬الأمة والشعب‮.. ‬

أما فى الشورى الاسلامية‮ ‬،‮ ‬فإن‮ "‬السيادة‮" ‬فى التشريع ابتداء‮ ‬،‮ ‬هى لله،‮ ‬سبحانه وتعالى،‮ ‬تجسدت فى‮ "‬الشريعة‮" ‬التى هى‮ "‬وضع إلهى‮" ‬وليست إفرازا بشريا ولا طبيعيا‮.. ‬وما للإنسان فى‮ "‬التشريع‮" ‬هى سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية‮ ‬،‮ ‬والتفصيل لها،‮ ‬والتقنين لأصولها،‮ ‬والتفريع لكلياتها،‮ ‬وكذلك لهذا الإنسان سلطة الاجتهاد فيما لم‮ ‬ينزل به شرع سماوى،‮ ‬شريطة أن تظل‮ "‬السلطة البشرية‮" ‬محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعى‮ ‬،‮ ‬أى محكومة بإطار فلسفة الإسلام فى التشريع‮".‬

ولذلك،‮ ‬كان الله،‮ ‬سبحانه وتعالى،‮ ‬فى الرؤية الاسلامية،‮ ‬هو‮ "‬الشارع‮" ‬لا الإنسان‮" ‬وكان الإنسان هو‮ "‬الفقيه‮" ‬لا الله،‮ ‬فأصول الشريعة ومبادئها وثوابتها وفلسفتها إلهية،‮ ‬تتمثل فيها حاكمية الله‮ .. ‬والبناء عليها تفصيلا وتنمية وتطويرا وتفريعا واجتهادا للمستجدات‮ ‬،‮ ‬هو فقه وتقنين تتمثل فيهما سلطات الإنسان،‮ ‬المحكومة بحاكمية الله‮ ..‬

ذلك ملمح متميز للشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية‮ ..‬

ولهذا التميز صلة وثيقة بنظرة كل الحضارتين‮ - ‬الغربية والإسلامية‮ - ‬لحدود تدبير الذات الإلهية‮ .. ‬وحدود تدبير الإنسان‮ .. ‬وللعلاقة بين الإنسان والله‮..‬

ففى النظرة اليونانية القديمة‮ - ‬خاصة عند أرسطو‮ (‬384‮ - ‬322‮ ‬ق.م‮) ‬نجد أن الله قد خلق العالم ثم تركه‮ ‬يعمل وفق طبائعه وقوانينه‮ ‬،‮ ‬دون تدخل أو رعاية إلهية دائمة‮..‬

وهذه النظرة لحدود التدبير الإلهى وجدناها فى النهضة العلمانية الغربية تعتمد على المبدأ الإنجيلى الذى‮ ‬يجعل مالقيصر لقيصر ومالله لله،‮ ‬فيفصل بين إطار التدبير الإلهى‮ - ‬الذى وقف عند‮ "‬الخلق‮" ‬وإطار التدبير الانسانى‮ - ‬الذى أعطاه السيادة فى تدبير العمران الدنيوى‮ ‬،‮ ‬دونما قيود من الحاكمية الإلهية على هذه السيادة والسلطة البشرية‮ .. ‬ذلك أن الإنسان‮ ‬،‮ ‬فى هذه النظرة الغربية،‮ ‬هو‮ "‬سيد الكون‮"‬،‮ ‬ومن هنا كانت له‮ "‬السيادة‮" ‬فى التشريع‮ ‬،‮ ‬مع‮ "‬السلطة‮" ‬فى التنفيذ‮..‬

أما فى النظرة الاسلامية‮ ‬،‮ ‬فإن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر‮ ( ‬الأعراف‮ ‬54‮)  ‬فتدبيره لم‮ ‬يقف،‮ ‬فقط عند"الخلق‮" ‬،‮ ‬وإنما له،‮ ‬أيضا‮ "‬الأمر‮" ‬المتمثل فى‮ "‬الشريعة‮ "‬التى أنزلها لتكون إطاراً‮ ‬ودعا الإنسان إلى الالتزام بإطارها فى هذه الحياة‮..‬

ولأن النظرة الإسلامية لمكانة الانسان فى الكون‮" ‬لاتجعل هذا الانسان‮" ‬سيدا للكون،‮ ‬وإنما تراه"خليفة‮" ‬عن‮ "‬سيد الكون‮"‬،‮ ‬فلقد رأت هذا‮ "‬الخليفة‮" ‬محكوما،‮ ‬فى أدائه لأمانة الاستخلاف وعمارة الأرض‮ ‬،‮ ‬ببنود عقد وعهد الاستخلاف التى هى‮ "‬الشريعة الإلهية‮"- ‬فهو‮- "‬بعبارة الإمام محمد عبده‮ (‬1266‮ - ‬1323هـ‮ ‬1849‮ - ‬1905م‮) ‬عبدالله وحده وسيد لكل شئ،‮ ‬بعده‮.‬

إنه‮ - ‬الإنسان‮ - ‬فى النظرة الاسلامية‮ - : ‬حر‮ .. ‬قادر‮.. ‬مريد‮.. ‬مستطيع‮.. ‬فى حدود أنه خليفة عن الله القادر بلا حدود؟‮!‬

‮"‬فالسيادة‮" ‬فى التشريع ابتداء‮ ‬،‮ ‬هى للحاكمية الإلهية المتمثلة فى‮ "‬الشريعة السماوية‮"‬،‮ ‬وللانسان فى‮ "‬التشريع‮" ‬سلطة الفقه والتقنين‮ ‬،‮ ‬شريطة أن لا‮ ‬يخرج عن حدود الشريعة أو روحها وفلسفتها‮..‬

تلك هى،‮ ‬على وجه الحصر والتحديد،‮ ‬الجزئية التى تتمايز فيها الشورى الاسلامية عن الديمقراطية الغربية‮ .. ‬أما ماعدا ذلك من تأسيس الحكم والسلطة على رضا الأمة ورأى الجمهور واتجاه الرأى العام،‮ ‬وجعل السلطة فى اختيار الحكام‮ ‬،‮ ‬وفى مراقبتهم ومحاسبتهم،‮ ‬وفى عزلهم هى للأمة،‮ ‬وكذلك اختيار الآليات والسبل النيابية لتكوين المؤسسات الممثلة لسلطات التقنين‮ .. ‬والتنفيذ والرقابة والقضاء‮ .. ‬فإنها‮ ‬،‮ ‬على وجه الإجمال‮ ‬،‮ ‬مساحة اتفاق بين الديمقراطية الغربية والشورى الإسلامية‮ .‬

وكذلك الحال مع مبدأ الفصل بين السلطات‮ - ‬سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء‮- ‬وهو المبدأ الذى تعارفت عليه الديمقراطية الغربية‮ .. ‬فإنه مما تقبله الشورى الإسلامية‮ .. ‬بل ربما ذهبت فيه تجربة الحضارة الإسلامية أبعد مما ذهبت التجارب الغربية‮ .. ‬فمن الممكن‮ - ‬فى الرؤية الإسلامية‮ - ‬تمييز سلطة الاجتهاد والتقنين عن سلطة‮ : ‬أهل الحل والعقد‮ - ‬الذين‮ ‬يختارون السلطة التنفيذية ويراقبونها ويحاسبونها‮ .. ‬وفى ذلك ما‮ ‬يجعل سيادة القانون فوق سلطة الدولة حقيقة وفعلا‮ .. ‬لا كما هو الحال،‮ ‬فى التجربة الديمقراطية‮ ‬،‮ ‬التى آلت فيها سلطة التشريع للبرلمان المكون من أغلبية الحزب الحاكم‮ ‬،‮ ‬والذى هو خاضع للسلطة التنفيذية‮ .. "‬فالهيئة البرلمانية‮" ‬لحزب الأغلبية منحازة للسلطة التنفيذية الى الحد الذى جعل سيادتها عليها اسمية إلى حد كبير‮ .. ‬أما استقلال سلطة خاصة بالاجتهاد والتقنين،‮ ‬مع التزامها بحاكمية الشريعة الإلهية‮ ‬،‮ ‬فهو الأقرب إلى مبدأ الفصل الحقيقى بين السلطات‮ ‬،‮ ‬والأكثر تحقيقا لسيادة القانون على بقية السلطات‮ .‬

وهكذا رأينا انتفاء القضاء‮ .. ‬وانتفاء التطابق بين كل من الشورى الاسلامية والديمقراطية الغربية‮ .. ‬ورأينا كيف‮ ‬يتفقان فى مساحات واسعة،‮ ‬خاصة فى الآليات والسبل والمؤسسات‮ .. ‬مع التمايز فى قضية‮ "‬السيادة فى التشريع الابتدائى‮" ‬التى جعلتها الديمقراطية الغربية للإنسان‮ .. ‬صراحة‮ .. ‬أو تحت اسم‮ "‬القانون الطبيعى‮" .. ‬على حين جعلتها الشورى الإسلامية لله سبحانه وتعالى‮ ‬،‮ ‬مع عدم حرمان الإنسان من حق التشريع والتقنين فى إطار حدود الشريعة الإلهية وروحها وكيانها‮ .‬

إن الشورى‮ - ‬فى حقيقتها‮ - ‬هى اسم من‮ "‬المشاورة‮" ‬والمشاورة‮ : ‬هى استخراج الرأى‮ .. ‬فهى‮ - ‬فى حد ذاتها أدخل فى‮ "‬الآليات‮" .. ‬آليات استخراج الرأى‮.. ‬وهى بهذا الاعتبار لا‮ ‬يمكن أن تكون نقيضا للآليات الديمقراطية‮. ‬أما التمايز بينهما فإنه‮ ‬يأتى فى الموضوع الذى‮ ‬يعمل فيه هذه الآليات،‮ ‬وفى نطاق عمل هذه الآليات‮ .. ‬فعلى حين لا تعرف الديمقراطية حدودا إلهية لسلطات عمل وإعمال آلياتها‮ .. ‬تميز الشورى الإسلامية بين نطاقين من‮ "‬الأمر‮" ‬أمر هو لله‮.. ‬أى تدبيره الذى اختص به سبحانه‮ (‬ألا له الخلق والأمر‮) ‬و"أمر‮" ‬أى تدبير هو فى مقدور الإنسان،‮ ‬وفيه تكون شوراه‮ (‬وأمرهم شورى بينهم‮) ‬الشورى‮ : ‬38‮ . (‬وشاورهم فى الأمر‮) ‬آل عمران‮ : ‬159‮ . ‬وبحكم خلافة الإنسان عن الله،‮ ‬سبحانه وتعالى،‮ ‬فإن‮ "‬أمره‮" .. ‬وتدبيره‮".. ‬حاكميته الإنسانية‮ - ‬محكوم بإطار"أمر الله‮ .. ‬وتدبيره‮" ‬التى هى حاكمية الله وحدود شريعته الإلهية‮..‬

ففى المرجعية‮ .. ‬وفى الفلسفة‮ .. ‬وفى الحدود‮ ‬يرد التمايز بين الشورى والديمقراطية‮ .."‬وليس فى الآليات‮ .. ‬كما‮ ‬يرد التمايز في‮ ‬بعض المقاصد والغايات‮ .. ‬فالديمقراطية كفكر وضعى وفلسفة دنيوية‮ - ‬لا تمد بصرها إلى ماهو أبعد من صلاح دنيا الانسان‮ ‬،‮ ‬بالمقاييس الدنيوية لهذا الصلاح‮ .. ‬على حين نجد الشورى‮  ‬كفريضة إلهية تربط بين صلاح الدنيا وسعادة الآخرة،‮ ‬فتعطى الصلاح الدنيوى بعداد دينيا‮ ‬يتمثل فى المعيار الدينى لهذا الصلاح‮.‬

تلك هى أبرز وجوه الأشباه والنظائر‮ .. ‬وأهم الفروق بين الشورى الاسلامية والديمقراطية الغربية‮.‬

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق