الشورى في القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي:
إن الشورى قيمة إنسانية مارستها الشعوب والقبائل والأمم والجماعات البشرية على مر تاريخها الطويل كل بطريقته الخاصة سواء في سهول سيبريا، أو أدغال إفريقيا، أو صحراء الجزيرة العربية أو هضاب آسيا، أو مروج أوروبا أو غيرها إلا أن الإسلام أضاف لها بعداً تعبدياً وجعلها من القيم الإنسانية الإسلامية الرفيعة ورتب على العمل بها ثواباً وعلى تركها عقاباً.
1 - في البدء كانت الشورى:
اعتاد العلماء والكتاب حين يتحدثون عن الشورى وأدلتها الشرعية أن يركزوا على الآيتين الكريمتين من سورتي الشورى وآل عمران وهما فعلاً آيتان مركزيتان في الموضوع سآتي - بعون الله تعالى - على ذكرهما وبيانهما إلا أنني أجعلهما المنتهى وليسس المبتدى.
وأبدا من قوله سبحانه: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" (البقرة, آية: 30 - 32).
وهذه المحاورة تنطوي على نوع من المشاورة، مشاورة أريد لها أن تكون في بدء الخليقة لتكون هديا ملازماً لبني آدم منذ الخلق الأول،، وليكون كالاستشارة للملائكة وتكريماً لهم فيكون تعليماً في قالب تكريم وليسن الاستشارة في الأمور ولتنبيه الملائكة على مادق وما خفي من حكمة خلق ادم كذا ذكر المفسرون، فالشورى هي أول سنه اجتماعيه سنها الله لخلقه ولعباده ليقتدوا بها ويهتدوا بهداها كما يستفاد من هذا النازلة أن الشورى مسنونة حتى في القضايا المحسوسة والمعروفة، على أساس أن هذا النوع من أنواع الشورى له مقاصده وفوائده المذكورة أو المذكور بعضها، كالتعليم والتكريم ثم الحث على التأسي والتأدب.
2 - الشورى عند إبراهيم عليه السلام:
قال تعالى:" فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ
يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات: 102).
فالمسألة محسومة معزومة ومع ذلك يقول إبراهيم لولده:"فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِن الصَّابِرِينَ "، فيجيب الولد" يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ"} الصافات: 102).
وهذه الآيات تبين لنا بأنه لا يمنع العزم عن إنفاذ الرأي وظهور جوابه عن الاستشارة، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه عزمة لا مشورة فيها فحمله حسن الأدب وعلمه بموقعه في النفوس على الاستشارة فيه فقال لابنه قال:" يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ... ".
إن من يعتاد المشاورة حتى فيما هو واضح جلي لا يمكن أن يتنكبها فيما هو غامض وخفي، فكون الشورى مسنونة ومحمودة ومفيدة في قضايا قطعية ومحسوسة، إنما هو إيذان بمدى ضرورتها ولزومها وأولويتها فيما تتعدد فيه الوجوده والإشكالات وتتضارب فيه الأنظار والاحتمالات.
3 - الشورى العائلية:
قال تعالى: "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا" (البقرة، آية: 232 - 223).
في الآية الأولى، إذا وقع التفاهم والتراضي بين الزوجين المطلقين من أجل التراجع والمراجعة، واستئناف علاقتهما الزوجية، فلا يجوز للولي أن يمنع ذلك.
وفي الآية الثانية، أن الرضاع المحدد في حولين كاملين يمكن تخفيض مدته، لكن على أن يتم الفطام بتشاور وتراضي لا أن يستبد به أحد الأبوين. وهذا يعني أن تدبير أمر الأولاد هو حق وواجب مشترك بين الوالدين، وأنه يجب أن يتم بالتراضي والتشاور، لاختيار أفضل ما يصلح للولد وينفعه مما هو ممكن.
فكون المرأة هي التي تمارس الإرضاع، لا يخولها التفرد بقرار توقيفه أو تمديده، وكذلك الزوج، باعتباره صاحب القوامة والنفقة، لا يحق له الاستبداد بأمر أولاده، فالأم شريكة له في تدبير شؤونهم، فلابد أن يكون ذلك كله ناشئاً "عن تراض منهما وتشاور".
وعلى هذا، فالقرارات المتعلقة بتعليم الأبناء الصغار، من حيث مكانه ونوعه ومدته، واستمراره وانقطاعه أو المتعلقة بصحتهم وبإقامتهم وسفرهم، وسائر انشطتهم، ما يقبل منها ومالا يقبل، وما يشجع منهما ومالا يشجع وكذلك المتعلقة بتوجيهم المهني أو بتزويجهم إذا كانوا متوقفين على التوجيه والمساعدة من آبائهم وأمهاتهم .. ، كل هذا وغيره يحتاج إلى تدبير شورى مشترك بين الوالدين، أو بينهما وبين الولد نفسه إذا أصبح له تميز ونظر وتستحسن مشاورة الصغار أنفسهم لأجل تعليمهم وتدريبهم وتأديبهم بأدب المشاورة.
وقد جاءت الأحاديث النبوية حاثة على استئمار البنات في شأن زواجهن والأحاديث في ذلك كثيرة، منها عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها، أتستأمر أم لا؟ قال: نعم تستأمر.
4 - حال التنازع والخصام:
قال تعالى:"وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ " (النساء، آية: 35).
فها هنا أمر ضمني بالشورى، فما دام هناك حكمان فلا يمكن أن يكون تقدير الحالة واعتماد الحل الممكن إلا شورى وائتماراً بينهما، ثم اتفاقاً وتراضيا على الحل والمخرج.
5 - رسول الله يحث زوجاته على مشاورة آبائهن وأمهاتهن، حين وقعت بينه وبينهن جفوة لكثرة ما كان يحرجنه به من طلبات النفقة فأنزل الله في ذلك قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّتُرِدْن الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنّ سَرَاحًا جَمِيلًا *وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا" (الأحزاب , آية: 28 - 29).
فقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر على نسائه، وخيرهن بما نصت عليه الآيتان وبدأ بعائشة رضي الله عنهما وقال لها. فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري وفي رواية أحب أن لا تعجلي حتى تستشيري أبويك ... فقالت: أفيك يا رسول الله استشير أبوي، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق