إن الشورى قيمة إنسانية مارستها الجماعات والقبائل والشعوب والأمم على مر تاريخها الطويل، كل بطريقته وثقافته وعقيدته وأعرافه وتقاليده، سواء في سهول سيبيريا، أو أدغال أفريقيا، أو صحراء الجزيرة العربية، أو هضاب آسيا، أو مروج أوربا، أو غيرها من بلاد الله الواسعة، إلا إن الإسلام أضاف لها بعداً تعبدياً وجعلها من القيم الإنسانية الرفيعة، ومن المقاصد الكبرى لهذا الدين، ورتب على العمل بها ثواباً، وعلى تركها عقاباً.
والشورى كانت مع بداية خلق الإنسان، قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" (البقرة، الآية: 30 ـ 32).
وهذه المحاورة تنطوي على نوع من المشاورة، اريد بها أن تكون في بدء الخليقة لتكون هدياً ملازماً لبني آدم منذ الخلق الأول، وليكون كالاستشارة للملائكة وتكريماً لهم فيكون تعليماً في قالب تكريم وليسن الإستشارة في الأمور، فالشورى هي أول سنة اجتماعية سنها الله لخلقه ولعباده ليقتدوا بها ويهتدوا بُهداها.
ـ وهي آية مكية مما يدل على أن الشورى في الإسلام ممارسة اجتماعية قبل أن تكون من الاحكام السلطانية.
ـ وهي تصف حال المسلمين في كل زمان ومكان فهي ليست طارئة ولا مرحلية، ولقد جعل الله سبحانه احترام الشورى من أثمن خصال المؤمنين وصفاتهم.
قال تعالى:" فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (الشورى، آية: 36 ـ 38).
إن تقدم الشعوب وقدرتها على مواجهة التحديات الحضارية يعتمد على نشر العدل وإعطاء الحقوق السياسية لأفرادها وجماعاتها، بكافة أنواعها، ولقد عاشت أمتنا الإسلامية في أوج حضارتها وتقدمها، عندما كانت تحافظ على هذه الحقوق وتعطي كل ذي حق حقه وهوت وسقطت لما تجاوزت تلك الحقوق.
إن فلسفة الحكم في الدولة المدنية الحديثة التي مرجعيتها الإسلام ترتكز على الشورى، التي ذكرت في القرآن الكريم ومارسها الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، فقد عرفت طريقها إلى الحياة السياسية وأصبحت من ركائز الدولة في عصر صدر الإسلام.
وهناك أصول شرعية تلازم الشورى كمبدأ إسلامي أصيل من أهمها:
ـ إن الإسلام اعتبر الشورى منهج حياة إنساني، فضلاً عن كونها ضرورية في نظام الحكم.
ـ إن طبيعة الحكم الإسلامي على مدار العهد النبوي ومروراً بخير القرون كان حكماً شورياً على الرغم من شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، ومكانة الخلفاء الراشدين بين عموم الصحابة رضي الله عنهم.
ـ إن تشريع الشورى بذاته قائم على المصلحة ودرء المفسدة، وهذا لا ينحصر في الشورى، فالتشريعات الإسلامية كلها قائمة على ذلك من جلب مصلحة ودرء مفسدة، كما يقول العز بن عبد السلام: الشريعة كلها نصائح، إما بدرء مفاسد أو بجلب مصالح.
ـ إن الشورى تتلاحم وتنصبغ بفكرة مقاصد الشريعة الكلية، ولها علاقة وثيقة الصلة بالضروريات الخمس التي تناولها الأصوليون بالتحليل والدراسة والبيان، إذ من الطبيعي في أي نظام شوري، أن تتحقق الضروريات الخمس، وأن تحفظ بعمومها، وهذا ليس خاصاً بالمسلمين على التحديد، بل يشمل غيرهم وعلى توصيف ابن عبد السلام.
وكذلك اتفقت الشرائع على تحريم الدماء والابضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الافضل، فالأفضل من الأقوال والأعمال.
ولا شك أن أي نظام ديكتاتوري أو تسلطي أو إستبدادي يقضي على هذه الضروريات، وتضيع في ظل إجراءاته المستبدة، والتاريخ يصدق هذا.
ومن المؤكد أن تحفظ الضروريات في ظل وجود حالة من النزاهة والعدالة، وفصل السلطات، ومحاكمة الحاكم وخضوعه عند رأي الشعب، فتنوع الحريات لتطال أفعال الحاكم وتصرفاته، وتحصيل المساواة بين الجميع، فلا سلطة إلا للشريعة وقانونها النافذ على الجميع، ونشر العدل في انحاء الدولة.
في ظل الحكم الديكتاتوري تغيب الشورى، ولا يسمح بالتعبير عن حرية الرأي، ويكون الحاكم مستبداً في تصرفاته ويعاقب بالقتل والسجن لمن أبدى رأيه في أعماله أو أخطاء ابنائه أو حاشيته، وتضيع الحرية والمساواة والعدالة بين عامة الشعب، ولقد سفكت دماء وهتكت اعراض، وصُودرت أموال، وقتل علماء وسجن مفكرون ومثقفون في ظل هذه الدول الظالمة، فلا دين، ولا نفس ولا مال، ولا عقل، ولا نسل، يمكن أن يستقيم أو يحفظ في ظل الأنظمة الاستبدادية والقمعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق