Translate

الثلاثاء، 15 يناير 2013

مجالس متخصصة

كان مجلسه ندوة كبيرة يجتمع إليها العلماء والفقهاء للبحث والنظر, ولم تكن المناظرات التي شهدتها مجالسه تزجية للوقت, وتخريجاً نظرياً للفروع على الأصول, ونزفاً فكرياً, إنما كانت نشاطا جاداً من أجل مجابهة المشاكل والتجارب المتجددة المتغيرة, بالحلول المستمدة من شريعة الإسلام وفقهها الواسع الكبير, مادام الرجل يسعى إلى إعادة صياغة الحياة في ميادينها كافة, وعلى مدى مساحاتها بما ينسجم وعقيدة الإسلام و رؤياه لموقع الإنسان في العالم ومن ثم فإن ندوات كهذه أشبه بمجالس أو ((لجان برلمانية)) متخصصة تجتمع بين الحين والحين لحلّ مشكلة ما, أو استعداد تشريع, أو إقرار قانون, ونحن نذكر هنا ذلك الاجتماع الموسّع الذي مرّ ذكره مع حشد من العلماء الذين اختيروا لكي يمثلوا المذاهب الفقهية كافة من أجل النظر في عدد من قضايا الوقت والمصالح العامة، وقد شبه ابن الأثير مجلسه بمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم: مجلس حلم وحياء, لاتؤبن فيه الحرم ولايذكر فيه إلا العلم والدين وأحوال الصالحين, والمشورة في أمر الجهاد وقصد بلاد العدو ولا يتعدى هذا.

وقد بين ابن الأثير رواية أخرى تحدث فيها عن قيام نور الدين باستحضار عدد من الفقهاء واستفتائهم في أخذ ما يحلّ لهم من الغنيمة, ومن الأموال المرصده لمصالح المسلمين, فأخذ ما أفتوه بحلّه ولم يتعدّه إلى غيره البتة فما يصدر عن ممثلي الشريعة الغراء يتوجب أن يكون ملزماً لكل إنسان سواء كان في القمة أم في القاعدة, وقولهم هو قول الفصل, لأن نور الدين - ما كان يريد أن يمارس الاستشارات القانونية المزدوجة يبرز للناس أنه لايقدم على عمل إلا بعد الاطلاع على رأي قادة فكرهم ومشرّعي قوانينهم, ويسعى في الخفاء إلى تنفيذ ما كان قد اعتزمه مسبقاً, مهما كانت درجة تناقضه مع طروحات اللجان الاستشارية والتشريعية والبرلمانية التي ستكون بمثابة الرداء الخارجي الذي يحمي في داخله مضامين وممارسات لا تمتد إلى لون الرداء ونسيجه في شئ, وكان يكاتب العلماء للاستشارة, فقد ذكر ابن الجوزي أن نور الدين كاتبه مراراً, وكان نور الدين يسأل العلماء والفقهاء عما يُشكل عليه من الأمور الغامضة وكان يقول لمستشاريه من العلماء والفقهاء: بالله انظروا أي شيء علمتموه من أبواب البر والخير دلوّنا عليه, وأشركونا في الثواب, فقال له شرف الدين بن أبي عصرون: والله ما ترك المولى شيئاً من أبواب البر إلا وقد فعله ولم يترك لأحد بعده فعل خير إلا وقد سبقه إليه لقد مارس الملك العادل نور الدين محمود زنكي الشورى على أسس صحيحة في دولته وكانت له مجالس شورية يلتقي فيها القادة العسكريون والإداريون مع العلماء والفقهاء, فكل حاكم يريد لحكمه أن يستمر ولنظام دولته أن يستقر عليه أن يكون حريصاً على الإلمام بحقيقة الأوضاع ببلاده, والشورى خير سبيل لتحقيق هذه الغاية.
ومع تطور أمور الحياة لاغنى لأمه تريد أن تنهض عن مبدأ الشورى, ولا مانع من ضبط ممارسة الشورى وفق نظام أو منشور أو قانون يعرف فيه ولي الأمر حدود ما ينبغي أن يشاور فيه ومتى وكيف؟ وتعرف الأمة حدود ما تستشار فيه ومتى؟ وكيف؟ لأن الشكل الذي تتم به الشورى ليس مصبوباً في قالب حديدي,فأشكال الشورى وأساليب تطبيقها ووسائل تحقيقها وإجراءاتها ليست من قبيل العقائد وليست من القواعد الشرعية المحكمة التي يجب التزامها بصورة واحدة في كل العصور والأزمنة, وإنما هي متروكة للتحري والاجتهاد والبحث والاختيار, أما أصل الشورى فإنه من قبيل المحكم الثابت الذي لا يجوز تجاهله أو إهماله لأن الشورى في جميع الأزمنة مفيدة ومجدية, والدكتاتورية أو حكم الفرد في جميع الأمكنة والأزمنة كريهة ومخربة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق