لما علم الصَّحابة - رضي الله عنهم - بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه، وهو يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنَّة الحادية عشر للهجرة، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار من يلي الخلافة من بعده، والتفَّ الأنصار حول زعيم الخزرج سعد بن عباده - رضي الله عنه - ولما بلغ خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين، وهم مجتمعون مع أبي بكر الصَّدَّيق - رضي الله عنه - لترشيح من يتولى الخلافة، قال المهاجرون لبعضهم: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، فإنَّ لهم في هذا الحقَّ نصيباً، قال عمر رضي الله عنه -: فانطلقنا نريدهم، فلمّا دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكر ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم ألا تقربوهم، اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينّهم، فانطلقنا حتَّى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمَّلُ بين ظهرانيهم فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ماله؟ قالوا: يُوعك. فلّما جلسنا قليلاً تشهَّد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثمّ قال: أمّا بعد فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم - معشر المهاجرين - رهط، وقد دفَّت دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر فلما سكت أردت أن أتكَّلم - وكنت قد زوَّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدَّمها بين يدي أبي بكر - وكنت أداري منه بعض الحدَّه، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك فكرهت أن أغضبه، فتكلَّم أبو بكر، فكان هو أحلم منَّي وأوقر، والله ما ترك كلمةٍ أعجبتني في تزويري إلاَّ قال في بديهته مثلها؛ أو أفضل منها حتى سكت، فقال: ما ذكرتكم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيَّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً، وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرّجلين فبايعوا أيَّهما شئتم، فأخذ بيدي، ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره ممّا قال غيرها، والله أن أقدَّم فتضرب عنقي لا يُقربني ذلك من إثم أحبُّ إليَّ من أن أتأمَّر على قوم فيهم أبو بكر؛ اللهَّم إلا أن تُسَوَّل إلى نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن.
فقال قائل من الأنصار: أنا جُذيلها المحكَّك وعُذيقُها المرجَّب، منا أمير، ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللَّغط وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف فقلت: ابسط يدك يا أبو بكر، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرين، ثمَّ بايعته الأنصار وفي رواية ... فتكلم أبو بكر - رضي الله عنه - فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا وذكره، وقال: ولقد علمتم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو سلك الناس وادياً، وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار، ولقد علمت يا سعد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر فَبَرُّ الناس تبع لِبَرَّهم وفاجرهم الناس تبعٌ لفاجرهم، قال: فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء، وأنتم الأمراء.
ونلاحظ مجموعة من الدروس والفوائد والعبر منها:
أ- الصديق وتعامله مع النفوس وقدرته على الإقناع:
استطاع أبوبكر الصديق أن يدخل إلى نفوس الأنصار، فأثنى على الأنصار ببيان ما جاء في فضلهم من الكتاب والسنة والثناء على المخالف منهج إسلامي يقصد منه: إنصاف المخالف وامتصاص غضبه، وانتزاع بواعث الأثرة والأنانيةّ في نفسه، ليكون مهيَّأ لقبول الحق إذا تبيَّن له، وقد كان في هدي النبيَّ صلى الله عليه وسلم الكثير من الأمثلة التي تدل على ذلك، ثم توصَّل أبوبكر من ذلك إلى أنّ فضلهم وإنه كان كبيراً لا يعني أحقيتهم في الخلافة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على أنَّ المهاجرين من قريش هم المقَدَّمون في هذا الأمر.
إلى غير ذلك من الأقوال المصيبة، والأدلة القوية، فتذكرت الأنصار ذلك، وانقادت إليه وبين الصديق في خطابه أنّ مؤهَّلات القوم الذين يرشحَّون للخلافة أن يكونوا ممّن يدين لهم العرب بالسَّيادة، وتستقرُّ بهم الأمور حتى لا تحدث الفتن فيما إذا تولَّى غيرهم، وأبان: أن العرب لا يعترفون بالسَّيادة إلا للمسلمين من قريش؛ لكونه النبي صلى الله عليه وسلم منهم، ولما استقر في أذهان العرب في تعظيمهم واحترامهم وبهذه الكلمات النيَّرة التي قالها الصديق اقتنع الأنصار بأن يكونوا وزراء مُعينين وجنوداً مخلصين، كما كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبذلك توحَّد صفُّ المسلمين.
ب- حرص الجميع على وحدة الأمة:
إن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة يؤكد حرص الأنصار على مستقبل الدعوة الإسلامية، واستعدادهم المستمر للتَّضحية في سبيلها، فما أطمأنُّوا على ذلك حتى استجابوا سراعاً لبيعة أبي بكر، الذي قبل البيعة لهذه الأسباب، وإلا فإن نظرة الصحابة مخالفة لرؤية الكثير ممن جاء بعدهم ممَّن خالفوا المنهج العلمي والدراسة الموضوعية، بل كانت دراستهم متناقضة مع روح ذلك العصر، وآمال وتطلعات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، وغيرهم، وإذا كان اجتماع السقيفة أدّى إلى انشقاق بين المهاجرين والأنصار كما زعم البعض، فكيف قبل الأنصار بتلك النتيجة، وهم أهل الديار وأهل العدد والعدة؟ وكيف انقادوا لخلافة أبي بكر، ونفروا في جيوش الخلافة شرقاً وغرباً مجاهدين لتثبيت أركانها؟ لو لم يكونوا متحمسين لنصرتها.
فالصواب اتضح من حرص الأنصار على تنفيذ سياسة الخلافة والاندفاع لمواجهة المرتدَّين، وأنَّه لم يتخلَّف أحد من الأنصار عن بيعة أبي بكر فضلاً عن غيرهم من المسلمين، وأن أخّوة المهاجرين والأنصار أكبر من تخيُّلات الذين سطَّروا الخلاف بينهم في رواياتهم المغرضة.
ولقد بايع سعد بن عبادة سيد الأنصار في حينه أبا بكر الصديق بالخلافة في أعقاب النقاش الذي دار في سقيفة بني ساعدة ونزل عن مقامه الأوّل في دعوى الإمارة، وأذعن للصديق بالخلافة وكان ابن عمه بشير بن سعد الأنصاري أوّل من بايع الصديق في اجتماع السقيفة.
ولقد جرت المشاورة بشأن اختيار خليفة للمسلمين بين الأفراد والمجموعات الصغيرة، وجرت فيما بين الأنصار وجرت فيما بين المهاجرين، ثم التأم الجميع في سقيفة بني ساعدة وجرت المشاروة الكبرى والنقاش العام بين المهاجرين والأنصار - في مسجد الرسول الكريم بعد ذلك - وأسفر ذلك كله عن مبايعة أبي بكر الصديق.
وإن الباحث ليلمس عظمة تربية رسول الله لأصحابه ونضجهم السياسي الكبير فمّما لاشك فيه أن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان حدث جلل، وترك فراغاً عظيماً في الأمة ومع هذا استطاع أهل الحل والعقد أن يتجاوز تلك المحنة الكبرى بوعي وفقه، وتقدير للأمور على أسس رشيدة انعدم نظيرها في تاريخ البشرية.
لقد كان على الأمة الإسلامية أن تواجه الموقف الصَّعب الذي نشأ عن انتقال الرّسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وأن تحسم أمورها بسرعة، وحكمة وألا تدع مجالاً لانقسام قد يتسرب منه الشك إلى نفوس أفرادها، أو للضعف أن يتسللّ إلى أركان البناء الذي شيدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج- منصب الخلافة والخليفة:
اختارت الأمة منصب الخلافة الإسلامية وأجمعت عليه طريقة وأسلوباً للحكم، تنظم من خلاله أمورها وترعى مصالحها، وقد ارتبطت نشأة الخلافة بحاجة الأمّة لها واقتناعها بها، ومن ثم كان إسراع المسلمين في اختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت الخلافة نظام حكم المسلمين، فقد استمَّدت أصولها من دستور المسلمين، من القرآن الكريم، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تحدث الفقهاء عن أسس الخلافة الإسلامية فقالوا بالشورى والبيعة وهما - أصلاً - قد أشير إليهما في القرآن الكريم، ومنصب الخلافة أحياناً يطلق عليه لفظ الإمامة أو الإمارة وقد أجمع المسلمون على وجوب الخلافة وأن تعيين الخليفة فرض على المسلمين يرعى شؤون الأمّة، ويقيم الحدود ويعمل على نشر الدّعوة الإسلامية، وعلى حماية الدين، والأمة بالجهاد، وعلى تطبيق الشريعة وحماية حقوق الناس، ورفع المظالم، وتوفير الحاجات الضرورية لكل فرد.
وقد أطلق المسلمون هذه الألقاب: الخليفة، الإمام، أمير المؤمنين في تاريخهم السياسي وهذه ليست من الأمور التعبدية، وإنما هي مصطلحات وجدت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم واصطلح الناس عليها، وقد أطلق المسلمون غير هذه الألقاب في وقت لاحق، كلقب الأمير، كما كان الحال في الأندلس، وكذلك لقب السلطان، كما تسمى بذلك الحكام في التاريخ الإسلامي، لقباً من هذه الألقاب، إذ المهم في هذا المجال أن يكون المسلمون ورئيسهم خاضعين للتشريع الإسلامي عقيدة وشريعة، بغض النظر عن الألقاب التي يمكن أن تطلق على هذا الرئيس سواء كان لقبه الخليفة أم أمير المؤمنين أم رئيس الدولة أم رئيس الجمهورية، فيمكن إطلاق أحد هذه الألقاب أو غيرها وهذا يرجع إلى ما يتعارف عليه الناس.
س- مجموعة من المبادئ السياسية من سقيفة بني ساعدة:
أفرز ما دار في سقيفه بني ساعدة مجموعة من المبادئ: منها أن قيادة الأمّة لا تقام إلا بالاختيار، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وشرعية القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب دينا، والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة تّم وفق مقومات إسلامية وشخصية، وأخلاقية، وأن الخلافة لا تدخل ضمن مبدأ الوراثة النسبيَّة، أو القبلية وأن إثارة "قريش" في سقيفة بني ساعدة باعتباره واقعاً يجب أخذه في الحسبان، ويجب اعتبار أي شيءٍ مشابه مالم يكن متعارضاً مع أصول الإسلام، وأنَّ الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين حيث لا هرج ولا مرج، ولا تكذيب، ولا مؤامرات ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنُّصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار إلى النصوص الشرعية ومن الأمثلة التي صدرت بالشورى الجماعية من حادثة السقيفة.
- أوَّل ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أن نظام الحكم ودستور الدولة يقَّرر بالشورى الحرّة، تطبيقاً لمبدأ الشورى الذي نص عليه القرآن، ولذلك كان هذا المبدأ محلَّ إجماع وسند هذا الإجماع النصوص القرآنية التي فرضت الشورى أي أن هذا الإجماع كشف وأكّد أوّل أصل شرعي لنظام الحكم في الإسلام، وهو الشورى الملزمة، وهذا أول مبدأ دستورئَّ تقرَّر بالإجماع بعد وفاة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ثمَّ إن هذا الإجماع لم يكن إلا تأييداً، وتطبيقاً لنصوص الكتاب، والسُّنَّة التي أوجبت الشورى.
- تقرر يوم السقيفة أيضاً: أن اختيار رئيس الدولة، أو الحكومة الإسلامية وتحديد سلطاته يجب أن يتمَّ بالشورى أي البيعة الحّرة التي تمنحه تفويضاً ليتولى الولاية بالشروط والقيود التي يتضمَّنها عقد البيعة الاختيارية الحّرة - الدستور في النظم المعاصرة - وكان هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أقّرها الإجماع، وكان قراراً إجماعياً كالقرار السابق.
- تطبيقاً للمبدأين السابقين، قرّر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر، ليكون الخليفة الأوَّل للدولة الإسلامية.
ثم إن هذا الترشيح لم يصحَّ نهائياً إلا بعد أن تَّمت له البيعة العامة، أي: موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابه الذي ألقاه.
ع- البيعة العامة:
بعد أن تمَّت بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - البيعة الخاصَّة في سقيفة بني ساعدة، كان لعمر رضي الله عنه - في اليوم التالي موقف في تأييد أبي بكر، وذلك في اليوم التالي حينما اجتمع المسلمون للبيعة العامة، ومما قاله عمر في حق أبي بكر: ... وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اعتصمتم به، هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبابكر بعد بيعة السقيفة ثم تكلم أبو بكر فحمد الله، وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: أما بعد أيُّها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت؛ فأعينوني، وإن أسأت فقوَّموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويُّ عندي حتى أرُجع عليه حقه إن شاء الله، والقويُّ فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحقَّ منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهَّم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله، ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها، وقد قرَّر الصديق فيها قواعد، العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم، وركَّز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمّة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق