Translate

الأحد، 6 يناير 2013

الشورى في قتال مانعي الزكاة والمرتدين


لما كانت الرّدة؛ قام أبو بكر - رضي الله عنه في الناس خطيباً فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: الحمد الله الذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم والعلم شريد والإسلام غريب طريد، قد رثَّ حبله، وخِلق ثوبه وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب، فلا يعطيهم خيراً لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شراً لشَّر عندهم، وقد غيرَّوا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون: أنهّم في منعة من الله، لا يعبدونه، ولا يدعونه فأجهدهم عيشاً وأظلهم ديناً، في ظلف من الأرض مع ما فيه من السَّحاب، فختمهم الله بمحمد، وجعلهم الأمة الوسطى ونصرهم بمن اتَّبعهم ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله نبيَّه، فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزل عليه وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ
انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ" (عمران, آية: 144).
إنَّ من حولكم من العرب قد منعوا شاتهم، وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم - وإن رجعوا إليه - أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما تقدم من بركة نبيَّكم وقد وكَّلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالاً فهداه، وعائلا فأغناه: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (آل عمران, آية: 103).
والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده ويُقتل من قتل منا شهيداً من أهل الجنة، ويبقى من بقي منا خليفته، وذريته في أرضه، قضاء الله الحق وقوله الذي لا خلف له:
" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " (النور, آية: 55). وقد أشار بعض الصحابة، ومنهم عمر على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكّون، فامتنع الصَّديَّق عن ذلك وأباه.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر - قد تولى الخلافة - وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه - كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا إلا إله إلا الله، فمن قالها، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقَّه، وحسابه على الله، فقال: والله؛ لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصَّلاة والزَّكاة حقُّ المال، والله لو منعني عَناقاً كانوا يؤدُّونها إلى رسول الله؛ لقاتلتهم على منعها. وفي رواية: والله لو منعوني عِقالا، كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر، فعرفت: أنه الحق، ثمَّ قال عمر بعد ذلك: والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمَّة جميعاً في قتال أهل الردَّة، وبذلك يكون أبوبكر قد كشف لعمر - وهو يناقشه - عن ناحية فقهية مهمة أجلاها له، وكانت قد غابت عنه، وهي أن جمّلة جاءت في الحديث النبوي الشريف الذي احتج به عمر هي الدّليل على وجوب محاربة من منع الزكاة حتى وإن نطق بالشهادتين، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها؛ عصموا منيَّ دماءهم، وأموالهم إلا بحقَّها.
وفعلاً كان رأي أبي بكر في حرب المرتدين راياً مسدداً، وهو الرأي الذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة الإسلام والمسلمين، وأي موقف غيره سيكون فيه الفشل، والضيَّاع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية، ولولا الله، ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ، وتحّولت مسيرته، ورجعت عقارب الساعة إلى الوراء، ولعادت الجاهليَّة تعيث في الأرض فساداً.
لقد تجلى فهمه الدقيق للإسلام وشدّة غيرته على هذا الدين، وبقاؤه على ما كان عليه في عهد نبيَّه في الكلمة التي فاض بها لسانه ونطق بها جنانه، وهي الكلمة التي تساوي خطبة بليغة طويلة، وكتاباً حافلاً، وهي قوله عندما امتنع كثير من قبائل العرب أن يدفعوا الزكاة إلى بيت المال أو منعوها مطلقاً، وأنكروا فرضيتَّها: قد انقطع الوحي، وتمَّ الدين أينقص وأنا حيُّ؟
وفي رواية: قال عمر: فقلت: يا خليفة رسول الله تألَّف الناس فأرفق بهم. فقال لي: أجبار في الجاهلية خّوار في الإسلام قد انقطع الوحي، وتَّم الدَّين أينقص وأنا حيُّ؟ لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصَّحابة في حرب المرتدَّين، وما عزم على خوض الحرب إلا بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح إلا أنَّه كان سريع القرار، حاسم الرأي، فلم يتردَّد لحظة بعد ظهور الصَّواب له، وعدم التردُّد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر هذا الخليفة العظيم - في حياته كلَّها، ولقد اقتنع المسلمون بصحَّة رأيه، ورجعوا إلى قوله، واستصوبوه لقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - أبعد الصحابة نظراً، وأحقهم فهماً، وأربطهم جناناً في هذه الطامة العظيمة، والمفاجأة المذهلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق