Translate

السبت، 5 يناير 2013

الشورى في عهد النبوة


ثالثاً: الشورى في عهد النبوة:
إن السنة والسيرة النبوية مستفيضة بأمر الشورى، فقد شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمور كثيرة منها ما يتعلق بشأن الدولة ومنها ما يتعلق ببعض الأمور الاجتماعية؛ كحادثة الأفك التي شاور فيها علياً وأسامة مشاورة خاصة ثم استثار الأمة بشكل عام.
وقد أسس النبي صلى الله عليه وسلم للشورى نظاماً يحتذى، وسنة عملية تُتبع وعرف ذلك عنه أصحابه ومن ذلك:
- قال أبو هريرة: ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر وعمر: إن الناس ليزيدهم حرصاً على الإسلام أن يروا عليك زيّا حسناً من الدنيا فقال: وأيم الله لو أنكما تتفقان على أمر واحد، ما عصيتكما في مشورة أبداً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير حتى المرأة فتشير عليه بالشيء فيأخذ به .

وقد ثبتت مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابهّ في عدة أمور متباينة، منها:
1 - الشورى في يوم بدر:
أ- مشاورته في الخروج للقتال:
لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نجاة القافلة، وإصرار زعماء مكة على قتال النبّي صلى الله عليه وسلم، استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأمر، وأبدى بعض الصحابة عدم ارتياحهم لمسألة المواجهة الحربية مع قريش، حيث إنهم لم يتوقعوا المواجهة، ولم يستعدُّوا لها، وحاولوا إقناع الرسول صلى الله عليه وسلم بوجهة نظرهم، وقد صّور القرآن الكريم موقفهم وأحوال الفئة المؤمنة عموماً، في قوله تعالى: "كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * ُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِوَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ" (الأنفال، آية: 5 - 8).
وقد أجمع قادة المهاجرين على تأييد فكرة التقدم لملاقاة العدو، فقام أبوبكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امضي لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى "أذهب أنت وربك فقاتلا" "المائدة، آية: 24". ولكن نقاتل عن يمينك، وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسّره يعني: قوله وفي رواية: قال المقداد: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ " (المائدة، آية: 24) ولكن: أمض ونحن معك، فكأنه سَُّري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد ذلك عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشيروا عليّ أيها الناس وكان إنّما يقصد الأنصار، لأنهم غالبية جنده، ولأن بيعة العقبة الثانية، لم تكن ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم خارج المدينة، وقد أدرك الصحابي سعد بن معاذ - وهو حامل لواء الأنصار - مقصد النبيَّ صلى الله عليه وسلم من ذلك، فنهض قائلاً: والله لكانَّك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أجل" فقال: لقد آمنَّا بك، وصدَّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله؛ لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق؛ لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً، إنا لصُبُرُّ في الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، ولعلّ الله يريك منا ما تقرُّ به عينك فسِر على بركة الله.
وسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم من مقالة سعد بن معاذ، ونشَّطه ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: سيرُوا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم.
كانت كلمات سعد مشجعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وملهبة لمشاعر الصحابة، فقد رفعت معنوياتهم وشجعتهم على القتال، إن حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على استشارة أصحابه في الغزوات، يدل على تأكيد أهميّة الشورى في الحروب بالذات ذلك لأّن الحروب تقَّرر مصير الأمم، فإمَّا إلى العلياء، وإمّا تحت الغبراء.
ب- مشورة الحُباب بن المنذر في بدر:
بعد أن جمع صلى الله عليه وسلم معلومات دقيقة عن قّوات قريش، سار مسرعاً ومعه أصحابه إلى بدر؛ ليسبقوا المشركين إلى ماء بدر، وليحولوا بينهم وبين الاستيلاء عليه فنزل عند أدنى ماءٍ من مياه بدر، وهنا قام الحُباب بن المنذر، وقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنز لكه الله، ليس لنا أن نتقدَّمه، ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرَّأي، والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرّأي، والحرب، والمكيدة قال: يا رسول الله؛ فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماءٍ من القوم - أي: جيش المشركين - فنزله، ونغوَّر - نخرَّب - ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثمّ نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيه، ونهض بالجيش حتى أقرب ماء من العدوَّ، فنزل عليه، ثمّ ضعوا الحِيَاض، وغوَّروا ما عداها من الآبار.
وهذا يصَّور مثلاً من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه حيث كان أيُّ فرد من أفراد ذلك المجتمع يُدْلي برأيه حتى في أخطر القضايا، ولا يكون في شعوره احتمال غضب القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم، ثم حصول ما يترتبَّ على ذلك من غضب من تدَّني سمعة ذلك المشير بخلاف رأي القائد، وتأخره في الرتبة، وتضرره في نفسه أو ماله إن هذه الحرية، التي ربَّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه مكنت مجتمعهم من الاستفادة من عقول جميع أهل الرأي السديد، والمنطق الرشيد، فالقائد فيهم ينجح نجاحاً باهراً، وإن كان حديث السَّنَّ، لأنه لم يكن يفكر برأيه المجرَّد، أو آراء عصبةٍ مهيمنة عليه، قد تنظر لمصالحها الخاصَّة، قبل أن تنظر لمصلحة المسلمين العامةَّ، وإنما يفكرَّ بآراء جميع أفراد جنده وفد يحصل له الرأي السديد من أقلهَّم سمعة وأبعدهم منزلة من ذلك القائد؛ لأنه ليس هناك ما يحول بين أي فردٍ منهم والوصول برأيه إلى قائد جيشه.
ونلحظ عظمة التربية النبوية التي سرت في شخص الحُباب بن المنذر فجعلته يتأدب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم دون أن يُطلب رأيه، ليعرض الخطة التي لديه، لكن هذا تَّم بعد السُّؤُال العظيم، الذي قدَّمه بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرّأي، والحرب، والمكيدة؟
إن هذا السُّؤال يوضح عظمة هذا الجوهر القياديَّ الفذَّ، الذي يعرف أين يتكلم ومتى يتكلمَّ بين يدي قائده، فإن كان الوحي هو الذي اختار هذا المنزل، فلأن يقدم، فتقطع عنقه أحبُّ إليه من أن يلفظ بكلمة واحدة وإن كان الرأي البشريُّ فلديه خطة جديدة كاملة بإستراتيجية جديدة.
إن هذه النفسية الرّفيعة، عرفت أصول المشورة، وأصول إبداء الرّأي، وأدركت مفهوم السمَّع والطاعة، ومفهوم المناقشة، ومفهوم عرض الرّأي المعارض لرأي سيَّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
وتبدو عظمة القيادة النبوية من استماعها للخطة الجديدة، وتبني الخطة المطروحة من جندي من جنودها، أو قائد من قّوادها.
ج- مشاورته صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر:
قال ابن عباس رضي الله عنه: فلمّا أسروا الأسارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا نبيَّ الله؛ هم بنو العَّم، والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قّوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا بن الخطاب؟ قال: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي يراه أبو بكر ولكنيَّ أرى أن تُمَكِنَّا منهم، فنضرب أعناقهم، فتمكَّنٍ عليَّاً من عقيل، فيضرب عنقه، وتمكنيَ من فلان "نسيباً لعمر" فأضرب عنقه، فإنّ هؤلاء أئمّة الكفر، وصناديدها، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يَهْوَ ما قلت فلمَّا كان من الغد جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر قاعدان يبكيان، قلت: يا رسول الله أخبرني من أيَّ شيء تبكي أنت وصاحبُك، فإن وجدت بكاءً، بكيت، وإن لم أجد بكاء، تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة. شجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عز وجلّ: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (الأنفال، آية: 67 - 68).
وهذه الآية تضع قاعدة هامَّة في بناء الدَّولة حينما تكون في مرحلة التكوين والإعداد، وكيف ينبغي ألا تظهر بمظهر اللَّين، حتى تُرْهب من قِتَلِ أعدائها وفي سبيل هذه الكلية يُطرح الاهتمام بالجزئيَّات - حتى ولو كانت الحاجة ملحة إليها.
وقد أفادت الرواية أن القول الذي أخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم - هو الفدية - وكان رأي أبي بكر رضي الله عنه، وأوضحت الرواية أن أكثر الصحابة كانوا عليه ولذلك قال: أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ في هذه النازلة برأي الأغلبية من أصحابه، ولذلك جاء اللوم عاماً من الله تعالى: "لَّوْلاَ كِتَابٌ ... مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " (الأنفال، آية: 67 - 69).
في قوله " تريدون" للفريق الذين أشاروا بأخذ الفداء وفيه إشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معاتب، لأنه أخذ برأي الجمهور، وروي أن ذلك كان رغبة أكثرهم واللوم الذي وجهه الله تعالى للصحابة لم يكن بسبب الرأي الذي أشاروا به في حد ذاته ولكن بسبب الدافع الذي وراءه وهو الكسب الدنيوي الذاتي "تريدون عرض الدنيا" ولذلك لا يدخل فيه منهم إلا من تحكمت هذه الرغبة في الرأي الذي أشار به.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق