إن السبب الحامل لعثمان على جمع القرآن مع أنه كان مجموعاً مرتباً في صحف أبي بكر الصديق، إنما هو اختلاف قراء المسلمين في القراءة اختلافاً أوشك أن يؤدي بهم إلى أخطر فتنة في كتاب الله تعالى، وهو أصل الشريعة، ودعامة الدين، وأساس بناء الأمة الاجتماعي والسياسي والخلقي، حتى إن بعضهم كان يقول لبعض: إن قراءتي خير من قراءتك فأفزع ذلك خليفة المسلمين وإمامهم، وطلب إليه أن يدرك الأمة قبل أن تختلف فيستشري بينهم الاختلاف ويتفاقم أمره، ويعظم خطبه، فيمس نص القرآن وتحّرف عن مواضعها كلماته وآياته، فجمع عثمان المهاجرين والأنصار وشاورهم في الأمر، وفيهم أعيان الأمة، وأعلام الأئمة، وعلماء الصحابة وفي طليعتهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعرض عثمان هذه المعضلة على صفوة الأمة وقادتها الهادين المهديين ودارسهم ودارسوه، وناقشهم فيها وناقشوه، حتى عرف رأيهم وعرفوا رأيه، فأجابوه إلى رأيه في صراحة لا تجعل للريب إلى قلوب المؤمنين سبيلاً، وظهر للناس في أرجاء الأرض ما انعقد عليه إجماعهم، فلم يعرف قط يومئذ لهم مخالف، ولا عرف عند أحد نكير، وليس شأن القرآن الذي يخفي على آحاد الأمة فضلاً عن علمائها وأئمتها البارزين.
لقد اتفق الصحابة على جمعه بما صح وثبت من القراءة المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم واطراح ما سواها، واستصوبوا رأيه، وكان رأيا سديداً موفقاً.
وقال علي رضي الله عنه: لو وليت لعملت بالمصاحف التي عمل بها عثمان.
لقد ظلت الصحف في رعاية الخليفة الأول أبي بكر الصديق، ثم انتقلت بعده إلى رعاية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ثم لما عرف عمر حضور أجله ولم يول عهده أحداً معيناً في خلافة المسلمين وإنما جعل شورى في الستة أوصى بحفظ الصحف، وعنها نقل مصحفه " الرسمي" وأنه أمر أربعة من أشهر قراء الصحابة إتقانا لحفظ القرآن ووعياً لحروفه وأداء لقراءته وفهماً لإعرابه ولغته وهم زيد بن ثابت الأنصاري، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهؤلاء من قريش.
وقال عثمان للرهّط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كُلَّ أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحُرق والفرق بين جمع أبي بكر وعثمان أن جمع أبي بكر كان لخشيته أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتباً لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرأوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجاً بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم دفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق