Translate

السبت، 22 ديسمبر 2012

الدستور العثماني

الدستور العثماني: أ - نبذة عن الأوضاع القانونية في الدولة العثمانية: قبل الحديث عن الدستور العثماني، يحسن بنا استعراض الأوضاع القانونية في الدولة العثمانية بشيء من الإيجاز، فالدولة العثمانية كانت تعتمد على الشريعة الإسلامية، وكان القضاء بالشريعة هو القضاء النافذ والمعمول به، فكانت الشريعة الإسلامية هي القانون الأساس، وكانت الدولة تحرص على أن تصبغ أعمالها بصبغة الشريعة، فكانت تلجأ إلى المفتي تستفتيه عندما تريد أن تضع قانونا سياسيا، أو نظاما عسكريا، وكثيرا ما كانت تتفاوض معه في القضية التي ستعرض عليه، ولقد ظهر في ميدان القانون خاصة المحاولة الجادة من العثمانيين لجعل الإسلام الأساس الصحيح للحياة الخاصة والعامة، ولجعل الشريعة القانون النافذ للدولة، وتطبيقها في جميع أنحاء البلاد.

وبدأت في عهد السلطان محمود، ومن بعده في عهدي السلطانين: عبد المجيد وعبد العزيز التنظيمات القانونية، حيث كونت اللجان لوضع القوانين الخاصة، كقانون الأراضي الذي نشر عام (1857م ـ 1274م) ، وقانون الطابو  سنة (1858م ـ 1275هـ) ، وقانون الجزاء سنة (1857م ـ 1274هـ) ، وقانون التجارة سنة (1871م ـ 1288هـ) ، ثم تم وضع القانون المدني، الذي نظم في مجلة الأحكام العدلية، حيث أخذت نصوصه من النصوص الشرعية المبثوثة في الفقه وبالذات الفقه الحنفي، مراعين ما يلائم العصر، وأصدره السلطان عبد العزيز بإرادة سنية عام (1871م ـ 1289هـ) قانونا تعتمده المحاكم في جميع أنحاء الدولة .
وبدأت الدولة العثمانية مع بداية وضع هذه القوانين الاقتباس من النظم القانونية الأوربية، وبالذات الفرنسية، حيث عدلت بعض الأحكام الشرعية ببعض القواعد القانونية الفرنسية، وانتهى الأمر بإحلال القوانين الفرنسية محل الشريعة الإسلامية، حيث نقلت عنها قانون العقوبات، وقانون التجارة، وقانون الإجراءات المدنية  .
ب - التنظيمات الدستورية: تعتبر بداية التنظيمات الدستورية في العهد العثماني أيام السلطان عبد المجيد والد السلطان عبد الحميد الثاني، إلا أن هذه التنظيمات لم تكن بشكل شامل، ولم يدون خلالها الدستور، وفي عهد السلطان عبد العزيز صدرت بعض التنظيمات في شكل فرمان صدر في تاريخ 15 - / 11 / 1292 هـ الموافق 14 ديسمبر 1874م، أما التنظيمات الدستورية الفعلية والشاملة، فقد حصلت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، حيث تم في عهده إنشاء (مجلس المبعوثان) ، وهو بمثابة البرلمان، وكذلك (مجلس الأعيان) ، حيث وافق على قرار سائر الوكلاء الفخام في 5 شوال سنة 1293هـ الموافق 3 نوفمبر 1876م، وفي 7 ذي الحجة 1293هـ أصدر أمره بالموافقة على إصدار القانون الأساسي (الدستور) وجاء في (119) مادة، وهو أول دستور مدون للدولة العثمانية، وثاني دستور مدون لدولة إسلامية في العصر الحديث.
إلا أن العمل بهذا الدستور أبطل في 13 شباط 1878م بصدور مرسوم سلطاني بحل مجلس المبعوثان، إلغاء العمل بالدستور؛ ونظرا للظروف الاستثنائية التي مرت بها الدولة العثمانية في ذلك الوقت، واستمر وقف العمل بالدستور، حتى كانت المطالبة به من الرعية، وحصلت بعض القلاقل في أرجاء الدولة بسبب عدم إعادة العمل بالدستور، ونزولا عند هذه الرغبة الملحة من الرعية صدرت موافقة السلطان على قرار مجلس وكلاء الدولة بإعادة مجلس المبعوثان والعمل بالدستور وذلك في 24 جماد الثانية 1326هـ الموافق 10 تموز 1908م، حيث بدأ تطبيق القانون الأساسي، ودعوة المجلس النيابي (المبعوثان) للانعقاد في 1 رجب 1326هـ الموافق 18 تموز 1908م، بموجب الإرادة السنية الصادرة في هذا اليوم 
جـ - أهم محتويات الدستور: بلغت مواد هذا الدستور (119) مادة، موزعة في عدة أقسام هي:
القسم الأول: في ممالك الدولة العثمانية: ويحوي هذا القسم المواد السبع الأولى، وقد ورد في المادة الثالثة النص على أن السلطنة العثمانية هي دولة الخلافة الإسلامية، كما ورد في المادة الرابعة، أن السلطان حسب الخلافة هو الحامي لدين الإسلام.
ومما يؤخذ على هذا الدستور ما ورد في المادة الخامسة، بأن ذات الخليفة مقدسة وغير مسؤولة.
القسم الثاني: في حقوق تبعة الدولة العثمانية العمومية: ويحوي هذا القسم على المواد من (8) إلى (26) ، وقد نصت المادة الحادية عشر على أن دين الدولة العثمانية هو دين الإسلام، ومع المحافظة على هذا الأساس تكون حرية جميع الأديان المعروفة في الدولة العثمانية، وكافة الامتيازات الممنوحة إلى الجماعات المختلفة تحت حماية الدولة، على شرط أن لا تخل براحة الناس ولا بالآداب العامة.
ونصت المادة الثامنة عشر على أن اللسان التركي هو اللسان الرسمي للدولة، وهذا مما يؤخذ على هذا الدستور، لأن الدولة العثمانية لم تكن تمثل القومية التركية، وإنما تمثل الأمة الإسلامية وهي دولة الخلافة فكان الأولى أن تكون اللغة الرسمية هي لغة القرآن الكريم.
القسم الثالث: في وكلاء الدولة: ويحوي هذا القسم المواد من رقم (27) إلى رقم (38) وينظم هذا القسم أوضاع المسؤولين في الدولة (الوكلاء) وهم رؤساء المصالح الحكومية، وفي مقدمتهم منصبا الصدر الأعظم، وشيخ الإسلام.
القسم الرابع: في المأمورين: ويحوي هذا القسم المواد من رقم (39) إلى رقم (41) ، وينظم هذا القسم أوضاع المأمورين المنتخبين للمأموريات من تعيين وعزل وما يتعلق بذلك.
القسم الخامس: في المجلس العمومي: ويحوي هذا القسم المواد من رقم (40) إلى رقم (59) ، ويحدد هذا القسم المجلس العمومي بأنه مكون من هيئتين، إحداهما: هيئة الأعيان، والأخرى هيئة المبعوثان، وينظم أوضاع المجلس وأعضاءه، وما يناقش فيه، وكيف يناقش.
القسم السادس: في هيئة الأعيان: ويحوي هذا القسم المواد من رقم (60) إلى رقم (64) وينظم هذا القسم، عدد أعضاء الهيئة، وشروط العضوية، ومرتبات الأعضاء وأعمال الهيئة.
القسم السابع: في هيئة المبعوثان: ويحوي هذا القسم المواد من رقم (65) إلى رقم (80) ، وينظم هذا القسم عدد أعضاء الهيئة، وكيفية الانتخاب، وشروط العضوية ومدة العضوية، ومرتبات الأعضاء، وكيفية عمل الهيئة ومحاكمة أعضائها.
القسم الثامن: في المحاكم: ويحوي هذا القسم المواد من رقم (81) إلى رقم (91) ، وينظم هذا القسم، طريقة المحاكمات، وأوضاع القضاة، وتنظيم أمور القضاء والتقاضي.
ومما يؤخذ على هذا الدستور أيضا ما ورد فيه من النص على ازدواجية القضاء، وذلك بفصل القضاء الشرعي عن القضاء النظامي أو القانوني، حيث كان هناك محاكم شرعية، ومحاكم نظامية، وقد وكل إلى هذه الأخيرة تطبيق القوانين المنقولة من القوانين الفرنسية، وعين بها قضاة أعدوا لذلك، وضاق نطاق المحاكم الشرعية حتى قصر اختصاصها على مسائل الأحوال الشخصية للمسلمين .
القسم التاسع: في الديوان العالي: ويحوي هذا القسم المواد من رقم (92) إلى رقم (95) ، وينظم تشكيل الديوان العالي ومهامه واختصاصاته.
القسم العاشر في الأمور المالية: ويحوي هذا القسم المواد من رقم (96) إلى رقم (107) ، وينظم الأمور المالية للدولة، والميزانية العامة، والمحاسبة.
القسم الحادي عشر في الولايات: ويحوي هذا القسم المواد من رقم (108) إلى رقم (112) ، وينظمها شؤون إدارة الولايات، وأعضاء مجالس الإدارة في مراكز الولايات، والأولوية، والأقضية، وأمور البلديات.
القسم الثاني عشر في مواد شتى: ويحوي هذا القسم المواد من رقم (113) إلى رقم (119) ، وينظم أمور لا تدخل تحت أي من الأقسام السابقة، مثل حالات فرض الأحكام العرفية، وإلزامية التعليم الأولي، وكيفية تعديل الدستور، وتفسير أحكامه.
ذلك عرض موجز لمحتويات الدستور، ويظهر جليا تأثر هيكله بالهياكل الدستورية في الدول الغربية، من حيث التقسيمات، وما يجب أن يحويه الدستور؛ ويرجع ذلك إلى أن فكرة إصدار هذا الدستور كانت نتيجة لضغوط الدول الأوربية، وفي هذا الصدد يذكر ساندي في دراسته عن عملية تدوين الدستور في الدول الإسلامية أن الحاجة إلى التقنين سواء في الميدان الدستوري أو المجالات القانونية الأخرى قد ظهرت في العالم الإسلامي نتيجة للنفوذ الغربي، ويضيف بأن الحاجة إلى وضع الدستور في الدول الإسلامية قد نشأت من الرغبة في تقليد المعايير الغربية .
كما يذكر بعض المؤرخين أن مضمون الدستور العثماني كان متأثرا بالدساتير الأوروبية وأنه قد صيغ على نمط الدستورين البلجيكي الصادر عام 1830هـ والروسي الصادر عام 1850م.
ولكن الدستور باعتباره من أوائل الدساتير المدونة للدول الإسلامية يعتبر من الوقائع الدستورية المهمة في العهود الإسلامية التي تلت عصر الراشدين باعتبار أولويته على الرغم من المآخذ التي أخذت عليه التي ذكرنا طرفا منها.
ويجدر أن ننبه هنا إلى أن ما تمارسه الدولة الحديثة من أعمال وسلطات، قد مارسته الدولة الإسلامية الأولى فعلا، فالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية كانت معروفة في ذلك الوقت ونظمت هذه السلطات، وقعدت القواعد الضابطة لها، في ضوء المبادئ الأصولية والفقهية التي تولى شرحها وبيانها بعد ذلك العلماء المسلمون، ولكن دون استخدام التعبيرات المعروفة الآن، فهذه التعبيرات الحديثة متأثرة بالنظم الدستورية الغربية المعاصرة، كما أن ما يعده العلماء المعاصرون من مسائل دستورية بطبعها هي موجودة فعلا في التراث الدستوري الإسلامي، ولكن باختلاف المصطلحات، والعبرة ليست بالأسماء ولكن بالمسميات، ولعل هذا الأمر اتضح من خلال تتبع بعض الأمور الدستورية في هذا البحث.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق