Translate

السبت، 26 يناير 2013

أزمة الشورى في واقع المسلمين


إن الاستبداد ينتج من تخلف المجتمع ككل , ورسوبه عميقاً في قاع التاريخ، وفقدانه لإرادة ممارسة الشورى ذلك كما استخف فرعون قومه فأطاعوه , فالوزر هنا هو وزر القوم قبل أن يكون وزر فرعون كما أشار القرآن:" فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ " (الزخرف , آية: 54).
وتحرر مجتمع ما من سلطة الاستبداد أو منح حاكم مستبد لشعبه حق الشورى , لا يعني نجاح ذلك الشعب في ممارسة الشورى إذ لم تكن فضيلة الشورى من طبع ذلك المجتمع ومزيته ولنشر روح الشورى في نسيج المجتمع العام لا يكفى إعداد دستور يتضمن المبادئ الأساسية الأولية التي تتبنى المفاهيم الشورية، ولا يكفى الاستشهاد لتلك المفاهيم بالنصوص القرآنية والسنية وإنما يتعين لإنجاز تلك المهمة الصعبة تربية الشعب كله على تلك المعاني , وغرس توجيهات تلك النصوص الكريمة , وبعث روحها في ضمير الفرد المسلم , حتى يدرك قيمة الشورى ويتصرف شورياً في مجالات سلوكه جميعاً وبالتالي يتعزَّز وجود الثقافة السياسية الشورية في قاعدة المجتمع المسلم, وتصبح تلك الثقافة أساساً تقوم عليه أركان النظام السياسي الواقعي, فالبنية السياسية تقوم على أساس من الثقافة السياسية للمجتمع ولا تنهض على محض الأماني والأوهام .
وقد قام علماء الاجتماع والعلوم السياسية مثل تالكوت , بارسوتر, وإدوارد شيلز, وجبرائيل الموند , وبننغهام باول ببيان أن ثقافة المجتمع السياسية, تتكون من ثلاثة جوانب مهمة وهي:
1 - الجانب "المعرفي" الذي يشمل ما يعرفه الناس في عامتهم عن النظام السياسي السائد في بلادهم وما يعرفونه عن أشخاص الحكام والمشاكل السياسية التي تواجه الأمة ككل.
2 - الجانب "العاطفي" وهو يشمل عواطف الناس تجاه النظام السياسي إن كانت حياداً أو تأييداً أو رفضاً أو معارضة وهذه العواطف في عمومها تُسهم في تحديد طريقة تعامل كل شعب مع مطالب نظامه السياسي, من حيث الاستجابه أو التجاهل أو التنفيذ أو الرفض أو التمرد.
3 - الجانب "التقويمي" حيث يصُدر الناس وصفاً عاماً على نظامهم السياسي, على أنه ديمقراطي أو استبدادي أو انه يخدم الصالح العام أم لا .
ولاشك أن السلوك السياسي للأمة "حكاماً ومحكومين" ينبثق من التقاليد الثقافية السياسية الذاتية للأمة وفي ذلك ما يفسر لنا قضايا من مثل: لماذا اختار الشعب البريطاني النظام الديمقراطي ذا الواجهة الملكية, ولماذا اختار الشعب الأمريكي النظام الديمقراطي الرئاسي ذا الفصل الحاد بين السلطات, ولماذا اختار الشعب الفرنسي نظاماً وسطاً ين هذين النظامين؟ ولماذا نجحت هذه الأنظمة في تلك البيئات الثقافية نجاحاً بيناً؟ ولماذا تفشل دائماً عندما تسُتورد أو تُستزرع في بيئات ثقافية سياسية مخالفة .
وقبل أن يتصدى علماء الاجتماع والسياسة المحدثون ممن أوردنا ذكرهم سالفاً لتفسير السلوك السياسي لبعض الشعوب بناء على نوعية خصائصها النفسية والثقافية كان الفقيه السياسي الإسلامي أبو الحسن الماوردي يتحدث في هذا المعني فيقول: ومما يجب أن يكون معلوماً أن زينة الملك بصلاح الرعية, والرعية كلما كانت أغنى وأثرى وأجل حالا في دين ودنيا, ومملكته كلها كانت أعمر وأوسع, كان الملك أعظم سلطانا وأجل شأنا, وكلما كانت أوضع حالا وأخس حالا كان الملك أخس مملكة وأنزر دخلاً وأقل فخرا.
وهذا هو عين السداد في النظر إلى المكوِّن الأهم في التركيبة السياسية, وهو مكوِّن الشعب وثقافته الذاتية ولا يمكن لحاكم أن يصلح أوضاع الرعية مالم تسهم هي بدورها في ذلك من ناحية استعدادها لقبول الإصلاح على أقل تقدير ثم مشاركتها في تنفيذ برامجه , لأن الأمر بالشورى ينفذ نفاذه حين يوجد معه صاحب الحق الذي يطالب به من ينساه ويرد إليه من يحيد عنه . فالأمة - قبل حاكميها - هي التي تُخرج مبدأ الشورى من حيز المبدأ إلى حيز الممارسة .
وقد انتبه العلامة ابن خلدون إلى هذا الجانب الثقافي في حياة المجتمع وإن كان قد نعته باسم آخر فدعاه بوازع الدين في خُلق الأمة وأسلوب تعاملها مع حكمها واستنبط ذلك من الأثر التالي: سأل رجل عليا , رضي الله عنه ما بال المسلمون اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟ فقال: إن أبا أبكر وعمر كانا واليين على مثلي , وأنا اليوم والٍ على مثلك.
وقد علل ابن خلدون التغير في نظم الحكم بالنقص في وازع الدين في الرعية , وهو تعليل صحيح , فالدين مكوّن قوي في الثقافة السياسية للأمة المسلمة , بل هو أقوى مكوّن فيها , ومتى ضعف أثره ضعفت الثقافة الذاتية للأمة قاطبة ولما ضعف هذا الأثر ترسبت في ثقافة الأمة المسلمة عبر عصور تدهورها كثير من الآفات التي اعتنى بفحصها وتحليلها الأستاذ مالك بن بني , في سياق ابحاثه عن ((مشكلات الحضارة)) وعدّها من المعوقات الخطيرة الكامنة في المجتمع الإسلامي, والتي لاتزال تعترض بشدة سبيل استعادة المسلمين لعافيتهم ونهوضهم لأداء دورهم في التاريخ, لقد عمل مالك بن نبي رحمه الله على تحليل آثار كثيرة من الأفكار الميتة والمميتة في ثقافة المجتمعات الإسلامية انطلاقاً من نظريته الكبرى عن القابلية للاستعمار , فقد آشار إلى مجموعة من الآفات النفسية والاجتماعية المتوطنة من قديم في العالم الإسلامي والتي هيأت للإستعمار الغربي أن ينفذ إليه ويقهره ويذله ويخضعه لشروطه ويكيف أوضاعه بما يجعله دائم الإذعان وهذه الأمراض النفسية والإجتماعية شبيهة بالجراثيم والأمراض العضوية التي تلم بالأجسام وحسب تحليلات مالك بن نبي فإن قابلية العالم الإسلامي للاستعمار هي التي جلبت الاستعمار الغربي إليه . وانطلاقاً من نظرية مالك بن نبي هذه نرى أن من أخطر الأفكار الميتة في بيئاتنا الاجتماعية فكرة الاستبداد التربوي التي تحكم مؤسستي الأسرة والمدرسة , حيث تتولد طباع الخنوع والتقليد والإحجام عن التفكير وإبداء الرأي وهذه من أشد الطباع مناهضه لمساعي استعادة خلق الشورى في المجتمع , حيث تُجتث جذور الشورى من الأعماق , ولذلك فلا بد , من معالجة هذا الشأن علاجاً جدياً جذرياً قبل التفكير في توطين الشورى في البنية السياسية العليا للمجتمع.
وثمة أسباب عديدة أسهمت في تغيب الشورى عن المجتمعات الإسلامية عبر العصور من أهمها:
* إيقاف آلية الشورى عملياً وتمثل هذا في جعل ولاية العهد الآلية الوحيدة في نقل السلطة من السلف إلى الخلف.
* تعزز وتطور ملامح التسلط والدكتاتورية في الشخصيات الحاكمة لغياب المؤسسات الرقابية الجادة.
*العمل على تأويل النصوص الدينية لصالح السلطة الحاكمة.
* التركيز على جعل القيادات في المجلات السياسية و الاجتماعية والاقتصادية .. الخ على الولاء للنظام ودعمه لا على الكفاءة والقدرة.
* إضعاف وتهميش مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
* التحكم في موارد وأموال الأمة مما فاقم من حالات البذخ والإسراف بين الطبقة الحاكمة وأعوانهم.
* ممارسة الظلم والقهر على عامة الناس من الحكام وأعوانهم وعمالهم.
* نمو ظاهرة العزلة الاجتماعية.
* بروز ظاهرة القداسة والتبجيل للحكام والولاة.
* التعرض والتطاول على مؤسسات المجتمع المدني, كالوقف مثلاً تأثير الانحلال الأخلاقي والفساد الإداري على القرار السياسي والشورى.
وبالرغم من تطور الحياة الإسلامية بكافة الميادين, الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية إلا أن المنحنى السياسي لم يكن كباقي الميادين السابقة , لأعتبار أن جوهر الحكم الإسلامي الشوري قد غُيبت لاعتبارات عديدة أبرزها ديمومة الحكم الوراثي  , وابتداء من الدولة الأموية مع وفاة معاوية بن أبي سفيان وتوريث ابنه يزيد واستمر الحكم الوراثي في بني العباس يقول الشيخ محمد رشيد رضا: .. ثم رسخت السلطة الشخصية في زمن العباسيين , لما كان للأعاجم من السلطان في ملكهم , وجرى سائر ملوك المسلمين على ذلك , وجازهم عليه علماء الدين بعدما كان لعلماء السلف الصالح الإنكار الشديد على الملوك والأمراء في زمن بني أمية, وأوائل زمن العباسيين, فظن البعيد عن المسلمين والقريب منهم أن السلطة في الإسلام استبدادية شخصية, وأن الشورى مجمدة اختيارية فيالله العجب: أيصرح كتاب الله بأن الأمر شورى, فيجعل ذلك أمر ثابتاً مقرراً , ويأمر بنيه المعصوم من اتباع الهوى في سياسته وحكمه , بأن يستشير حتى بعد أن كان ما كان من خطأ من غلب رأيهم في الشورى يوم أحد ثم يترك المسلمون الشورى لا يطالبون بها وهم المخاطبون في القرآن بالأمور العامة .
والأمر ذاته يمكن أن يشار له إلى عصر العثمانيين حيث الشورى معطلة في ظل ترامي الدولة الإسلامية وتوزع الجند على مراميها لحمايتها ، وبناء على هذا فقد تمّ توضيح مسار الشورى في هذا الكتاب من عهد النبوة والخلافة الرشدة ورأينا كيف كان مبدأ الشورى أصيل في الحكم مهيمن على الحياة العامة بصورة قوية وكيف ضعف هذا المبدأ في المجال السياسي مروراً بعصر الأمويين والعباسيين والعثمانيين , وانتهاء إلى عصرنا الحاضر , عصر القرن الحادي والعشرين.
ومع حالة الضعف والوهن السياسي, وغياب الشورى, كانت هناك إضاءات وأنوار مشعه, كما كان الحال مع أنموذج عصر عمر بن عبد العزيز الأموي فقد كان غرّه في جبين ذلك العصر , وكعهد نور الدين محمود زنكي في عهد الخلفاء العباسيين ومحمد الفاتح في عهد العثمانيين , فقد كانت عهود نهوض حضاري اسلامي عظيم.
وكانت في عهود الامويين والعباسيين والعثمانيين تطبيقات جزئية لمفهوم الشورى, شكلت مجالس شورية وكانت تعقد في الولايات ومراكز العواصم ولاشك أن غياب النهج الشورى من أسباب الأزمات والمصائب التي تعيشها الشعوب الإسلامية, إذ يغلب على هذه الدول أو الأمم غياب النهج الشوري, وبروز نمط الفردية والاستبدادية في انظمة الحكم  , فالاستبداء كما يقول الكواكبي: داء تبتلى به بعض الشعوب في بعض مراحل التاريخ, وهو أسوأ أنواع السياسة وأكثرها فتكاً بالإنسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق