Translate

السبت، 26 يناير 2013

الفراغ التنظيمي والفقهي في إدارة الشورى

إن الفراغ التنظيمي والفقهي في مسألة إدارة الشورى , وإدارة الاختلافات السياسية قد شكل على الدوام سبباً لتحكم منطق القوة والغلبة بكل مايعنيه ذلك من فتن وصراعات وتصفيات دموية وقد وردت أحاديث وآثار صحيحة كانت تقتضي المبادرة إلى وضع قواعد مضبوطة ومتعارف عليها لفض النزاعات وتجاوزها وصد الفتن وتجنبها بدل السقوط فيها ومعالجتها بالسيوف.

أ- عن عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية , حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلاً , ثم إنصرف إلينا , فقال صلى الله عليه وسلم , سألت ربي ثلاثاً , فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة , سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.
نلاحظ أن الطلبين الأول والثاني يتعلقان بأسباب قدرية صرفة ليس للأمة مسؤولية فيها وليس من كسبها ولا من صنع يدها , ولا يمكن أن يدفعها من هلاكها إلا قدر الله تعالى.
وأما الطلب الثالث فمتعلق بعمل الناس واجتراحهم واجتنابه أو علاجهم بأيديهم وقد أرشدهم إلى أسباب الأخوة والوحدة وحذرهم من أسباب العداوة والفرقة فلن يكون بأسهم بينهم إلا بمخالفة أحكام دينهم وتفريطهم فيما فرض عليهم , فليس أمامهم إلا أن يحلوا مشاكلهم الناجمة عن أفعالهم بأنفسهم , وأن يحتاطوا ويسدوا أبواب الفتن والصراعات وإلا فليتحملوا نتائج الإخلال والتفريط ونتائج التعدي لحدود الله.
ومن التحصينات الإسلامية ضد التصارع والتفرق والفتنة , أن فرض على المسلمين أن يكون " وأَمْرُهمُْ شُورَى بَيْنَهُمْ".

والشورى تفضي إلى تحكيم الشرع , وتحكيم العقل , وتحكيم المنطق , وتحكيم المصلحة , والشورى حوار وتفاهم وتوافق حيث يأخذ كل ذي حق حقه , والشورى استدلال واحتجاج وإقناع وفي الجهة الأخرى يوجد الاستبداد والأنانية والمغالبة بكل وسائلها , من مكر وسيف وبأس وتآمر  وقوله صلى الله عليه وسلم: وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها , ليس معناه أن ((بأسهم بينهم)) مفروض عليهم , ولا محيد عنه ولا مخرج منه , بل معناه فقط أن هذا الطلب غير مجاب وغير مضمون لهم , وأنه متروك لتصرفهم وتدبيرهم وسلوكهم , وأن عليهم أن يحتاطوا لأنفسهم بأنفسهم ومن الاحتياطات التي يلزم تحقيقها تجنباً للفتن والصراعات اعتماد الشورى، وتنظيم إدارة الشورى، وتنظيم الشورى في مواطن النزاع ومظان الصراع , بصفة خاصة , وفي هذا المعنى يقول العلامة الفقيه محمد الحجوي الثعالبي: ولعدم الشورى المنظمة في الإسلام وقع ماوقع من الفتن والحروب بعد عمر , ليقضي الله أمره. ولا أزال أقوال: إنه كان يجول في فكر عمر شئ من ذلك , بدليل تنظيمه لمجلس شورى الخلافة.
ب- الفتنة التي تموج كموج البحر:
سأل عمر بن الخطاب بعض الصحابة عن حديث الفتنة التي تموج كموج البحر , فقال له حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين , لا بأس عليك منها , إن بينك وبينها بابا مغلقاً قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟ قال: قلت: لا بل يكسر قال ذلك أحرى أن لا يغلق.
وللدكتور أحمد الريسوني تعليق جميل على هذا الحديث , حيث يقول: فنحن أمام إخبار نبوي عن فتنة آتية , تموج كموج البحر , وأن هذه الفتنه دونها باب مغلق إلى حين وأنها ستدخل على المسلمين عند زوال ذلك الباب , وهنا سأل عمر , بحنكته وبصيرته وبعد نظره , أفيكسر الباب أم يفتح؟ فيأتي جواب حذيفة لا بل يكسر , فيقول عمر ذلك أحرى أن لا يغلق, فالباب المغلق إذا تم فتحه بكيفية طبيعية , يمكن إعادة غلقه بكيفية طبيعية , ولكن إذا كسر وحطم , بقي مشرعاً , على الأقل إلى حين , أي إلى أن يعاد الباب إلى وضعه السوي وإلى إغلاقه المعتاد وأما أن كان كسره وتحطيمه نتيجة خصام وتنازع فقد لا يتأتى إصلاحه وإعادته إلا بعد إنهاء الخصومة والنزاع ومعالجه أسبابهما.
والمخرج هو إعادة بناء الأبواب, وإغلاقها في وجه الفتن وأصحاب الفتن, فحين تكون عندنا أبوب وتكون عندنا مداخل ومخارج ويكون عندنا حراس وبوابون, وعندنا مفاتيح, لكل باب مفتاحه, ويكون عندنا قواعد ((أو قوانين)) للدخول والخروج والفتح والإغلاق, حينئذ لا خوف من الفتن, حتى لو أطلت أو تسللت أو تسربت.
إن هذا بعض ما أعنيه بتنظيم الشورى ومأسسة الشورى وتنظيم إدارة الشورى, أي لابد من مؤسسات للشورى ولابد من قوانين تنظيمية للشورى, والإسلام أعطانا مجالاً واسعاً لتنظيم مؤسسة الشورى وجعل ذلك اجتهاداً منوطاً بأهل الاختصاص في هذه الأمة وهذا من مراعاته للمجالات المتحركة والمتغيرة, فهو مثلاً قد أمر بالعلم والتعليم والتعلم, ولم يضع لذلك تنظيماً محدداً وهو قد أمر بالحكم والقضاء بين الناس وأن يكون ذلك بالعدل وبما أنزل الله ولكنه لم يضع لنا نظاماً قضائياً وأمر بالجهاد, ولم يضع لنا تنظيماً لذلك وكلفنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يفرض نظاماً أو طريقة مفصلة لذلك وحث على الوقف والتحبيس ولم يرسم لنا نظاماً لتسيير الأوقاف المتراكمة عبر العصور.
فالإجراءات والقوانين والوسائل التنظيمية, هي بمثابة الملابس ضرورية ولا غنى عنها ولكنها تفصل بحسب الأجسام وتفاوتها في الأحجام والزمان وبحسب أحوال الطقس من برد وحر واعتدال وبحسب حالة الجسم من صحة واعتلال, وبحسب طبيعة الأعمال والممارسات المختلفة ولتوضيح المسألة أكثر, أصنع أمام القارى الكريم نموذجاً واحداً للوظائف والتكاليف الشرعية التي أخذت مايلزم من التنظيم والتقنين والمأسسة وهو العلم والتعليم للمقارنة مع الشورى ومآلها, ففي العلم والتعليم - كما في الشورى - وردت آيات وأحاديث تحث وترغب وتأمر وتشجع, ثم في الأمرين معاً نجد ممارسة تطبيقية, تتسم بكامل الجدية والفاعلية أيضاً تتسم - من حيث تنظيمها - بالبساطة والعفوية والمرونة, ولم يختلف الأمر كثيراً على عهد الخلفاء الراشدين بعد ذلك دخلت المسألة العلمية والتعليمية في مسار متواصل من التنظيم والضبط والمأسسة والتوسيع والتفريع, حتى انتهى الأمر سريعاً إلى المدارس والجامعات النظامية ذات البنيات الإدارية, والبنايات العمرانية والموارد المالية, فضلاً عن نظمها التعليمية بموادها وبرامجها ومستوياتها وأساليبها وأصبحناً أمام مدارس وجامعات, أهلية لاتعد ولا تحصى ورسمية حكومية لاتعد ولاتحصى وكل هذه النظم والمؤسسات والمناهج والتخصصات والشواهد والإجازات والموارد والميزانيات, لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أمر بها، ومع ذلك بادر إليها المسلمون وتنافس فيها العلماء والأمراء والأغنياء والفقراء ولو لا ذلك لبقيت الحركة العلمية ضئيلة وبدائية ولما أمكنها الاستجابة للمتطلبات والتحديات الجديدة للمجتمعات الإسلامية, وللدعوة الإسلامية, وللدولة الإسلامية, ولبقيت هي نفسها عرضة للتلاشي والإندثار.
وإذا كانت هذه التدابير التنظيمية ليس لها وضع شرعي محدد, وليست منصوصاً عليها ولا مأموراً بها على وجه التفصيل والتعيين, فإن الشرع قد تضمن عدداً من القواعد العامة الحاكمة والموجهة في كل مجال وفي كل وظيفة شرعية ففي الممارسة الشورية هنالك عدد من المبادئ والقواعد المؤسسة والهادية للممارسة الشورية وهي مستوحاة من القرآن والسنة ومن التجربة العلمية للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين.
إن الشورى تستوجب وضع القواعد المنظمة لممارستها وكذلك تبرز الحاجة إلى الأطر المؤسسية والإجرائية التي تواكب متغيرات العصر وتحافظ على مقتضيات الأصل, وهي مما يدخل في دائرة الاجتهادات المشروعة التي تتصل بتطوير الوسائل نحو بلوغ الغايات ولابد من عناية بها, لأن تنظيم شكل ممارسة الشورى يضمن لها الفعالية, وغياب هذا التنظيم قد يحولها إما إلى شورى صورية لاحقيقة لها, وإما إلى فوضى في الرأي لا غنى لها.
والتنظيم المقصود للشورى يرتكز على أن الإقرار بحق الفرد في الشورى يجب أن يقابله الالتزام بواجب الفرد في الالتزام أولاً بممارستها في محلها وأخيراً بما تسفر عنه من رأي إن كان مخالفاً لما هو عليه من رأي. والدرس الشورى المستفاد من العمل برأي الأكثرية أن تتحمل نتائج تبعة العمل واتخاذ القرار ولحسم التردد بعد اتخاذ القرار.
ويجيء الأمر بالتزام الشورى كمنهج مهما كانت النتائج والمراد تربية الأمة على الشورى.
إن مكتبتنا في هذا الجانب فقيرة إلى كتاب أصلى لتنظيم إجراءات الاجتماع والتداول وإبداء الرأي, كما أن قوانيننا التي تنظم مجالات القول والتعبير وإبداء الرأي فقيرة أيضاً إلى مرجعية تأصيلية تراعي مقتضيات الممارسة الحرة المسؤولة ولكننا هنا نشير إلى جوامع من الأفكار التي يمكن أن تُترجم إلى قوانين حاكمة في المجالات المشار إليها آنفاً.
وهكذا لابد للشورى - في كل عصر ومصر أو بحسب الظروف المكانية والزمانية - من مؤسسات وإجراءات تناسبها من حيث هي مناهج لتحقيق المقاصد مع احتفاظ الشورى بجوهرها في كونها ممارسة حرة لإبداء الرأي وتبادله بغية الوصول لإجماع أو ما يقاربه وهذه الوسائل من الاجتهادات المشروعة في إعمال أحكام الشورى على متغيرات العصر, ويمكن استخلاص الاجتهاد في استحداث مجالس الشورى التشريعية والرقابية من الآية الكريمة قال تعالى: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وأَمْرُهمُْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (الشورى , آية: 38) وذلك على النحو التالي:
أ يؤخذ من لفظ ((وأمرهم)) , أي: الأمر الموكول إلى الناس , وليس أمر الله الذي نزل به الوحي الثابت النص والدلالة , اللهم إلا ما كان من الشورى حول وسائل تنفيذ هذا الأمر الإلهي.
ب- كما يؤخذ من لفظ ((بينهم)) , أي بين العامة والخاصة وذلك حول اختيار إمام المسلمين من خلال البيعة الخاصة ثم البيعة العامة, وربما كان كما أسلفنا بمثلها في هذا العصر الانتخابات الرئاسية علاوة على الشورى في الأمور العامة بين ممثلي الأمة, مما يقتضي اختيار مجالس الشورى بالانتخاب العام, وهي مجالس للتشريع والرقابة تحول دون استبداد الحكم الفردي.
ج- ويمكن أن يُتوخى في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الإجماع, وإلا فالرأي العام الغالب والراجح وكذلك الأمر في مجالس الشورى التشريعية والتنفيذية لقوله صلى الله عليه وسلم: عليكم بالسواد الأعظم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق