لا مناص من قيام الأمة بانتخاب من يمثلونها وينوبون عنها في مباشرة هذا الانتخاب , ومن تنتخبهم الأمة لهذه المهمة يمكن أن يوصفوا بأنهم أهل الحل والعقد لمشايعة الأمة لهم ومتابعتها لهم ورضاها بنيابتهم وعلى الدولة أن تضع النظام اللازم لإجراء هذا الانتخاب وضمان سلامته وأن تعين في هذا النظام الشروط الواجب توفرها - في ضوء ماذكره الفقهاء - في من تنتخبهم الأمة لتكوين جماعة أهل الحل والعقد ومثل هذا الانتخاب ضرورى ولازم لإيجاد أهل الحل والعقد وإثبات وكالتهم عن الأمة بالتوكيل الصريح , لأن التوكيل الضمني يتعذر حصوله في الوقت الحاضر لكثرة أفراد الأمة ولأن إجازة مثل هذا التوكيل الضمني يفتح باباً خطراً على الأمة ويؤذن بفوضى وشر مستطير , إذ يستطيع كل عاطل عن شروط أهل الحل والعقد أن يجعل نفسه منهم وينصب نفسه ممثلاً عن الأمة بحجة أنها ترضى بنيابته عنها ضمناً وهذا مالا تجوزه الشريعة ولا يستسيغه عقل.
ولضمان سلامة انتخاب مجلس الشورى , انتخاب الأكفاء المخلصين لعضويته لا يكفي وضع نظام لهذا الانتخاب , بل لابد من إشاعة المفاهيم الإسلامية , ورفع المستوى الأخلاقي في الأمة , وتربية الأفراد على مخافة الله وتقواه حتى لا ينتخبوا إلا الأصلح وليقوم من تنتخبه الأمة بواجبه كما يأمر الإسلام.
إن طريقة الانتخاب المباشر هي الأكثر اعتمادأ في السيرة النبوية وفي سيرة الخلفاء الراشدين , ففي هذه الحقبة النموذجية كان الزعماء والوجهاء والمستشارون والمقدمون هم الذين ينبثقون ويقدمون في أقوامهم وعشائرهم ومدنهم وقراهم بشكل طبيعي طوعي , وهم الذين يحظون بالتقدير التلقائي والاختياري لعموم الناس , فيكون جمهور الناس هو الذي انتخبهم ورضي بهم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الزعماء والوجهاء والنقباء الذين اختارهم أقوامهم وتبوؤوا مكانتهم تلك برضاهم بهم وتقديمهم إياهم.
ففي بيعة العقبة الثانية قال عليه الصلاة والسلام للأوس والخزرج: اخرجوا لي اثني عشر نقيباً منكم يكونون على قومهم , فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
- ونلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين النقباء , إنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين بايعوا فإنهم سيكونون عليهم مسؤولين وكفلاء، والأولى أن يختار الإنسان من يكفله ويقوم بأمره، وهذا أمر شوري، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمارسوا الشورى عمليا من خلال اختيارهم نقبائهم.
- التمثيل النسبي في الاختيار , فمن المعلوم أن الذين حضروا البيعة من الخزرج , أكثر من الذين حضروا البيعة من الأوس , ثلاثة أضعاف من الأوس , بل يزيدون ولذلك كان النقباء ثلاثة من الأوس , وتسعة من الخزرج.
وفي غزوة حنين حينما أراد عليه الصلاة والسلام أن يمن على قبيلة هوازن , ويرد عليهم سبيهم، دعا أصحابه المقاتلين معه وعرض عليهم الأمر قائلاً: أما بعد فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين , وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم , فمن أحب منكم أن يطيب ... ذلك فليفعل ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يضئ الله علينا فليفعل فقال الناس: قد طبنا بذلك يارسول الله , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن , فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم. فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا.
والذي يعنينا - في هذا المقام - هو أن هؤلاء النقباء والعرفاء كانوا نتيجة انتخاب اجتماعي تلقائي , ناجم عن مكانتهم وأهليتهم من جهة وعن رضى الناس بهم من جهة أخرى فلم يكن أحد يرسلهم إليهم أو يفرضهم عليهم , بل كانوا هم الذين يخرجونهم منهم وجاءت سنة الخلفاء الراشدين وفقاً للسنة النبوية , فكان الخلفاء إذا أرادوا أن يستشيروا في أمر ديني أو دنيوي جمعوا وجوه الناس ورؤوسهم.
على أن تفضيل هذه الطريقة واعتمادها طريقة أصلية , لا ينبغي أن يكون مانعاً من اعتماد طريقة التعيين على سبيل الاستدراك وسد النقص , فهذه الطريقة أيضاً يمكن العمل بها وفق حدود وضوابط تحقق فائدتها دون أن تتحول طريقاً للاستبداد والتحكم , كما أن طريقة التعيين قد تكون في بعض الحالات هي الطريقة السليمة والمثلي كما في اختيار خواص المستشارين, وأعضاء بعض المجالس - أو اللجان - الاستشارية المتخصصة في شؤون أمنية أو عسكرية أو اقتصاديه .. أو نحو ذلك من الاختصاصات الصرفة.
إن شؤون الحياة متعددة , ولكل شأن منها أناس هم المختصون فيه وهم أهل معرفته , ومعرفة مايجب أن يكون عليه , ففي الأمة جانب القوة وفي الأمة جانب القضاء وفض المنازعات وحسم الخصومات , وفيها جانب المال والاقتصاد , وفيها جانب السياسية وتدبير الشؤون الداخلية والخارجية , وفيها جانب الفنون الإدارية وفيها جانب التعليم والتربية , وفيها جانب الهندسة , وفيها جانب العلوم والمعارف الإنسانية وفيها غير ذلك من الجوانب ولكل جانب أناس عرفوا فيه بنضح الآراء وعظيم الآثار وطول الخبرة , والمران هؤلاء هم أهل الشورى في الشؤون المختلفة وهم الذين يجب على الأمة أن تعرفهم بآثارهم وتمنحها ثقتها , وتنيبهم عنها في الرأي وهم الذين يرجع إليهم الحاكم لأخذ رأيهم واستشارتهم , وهم الوسيلة الدائمة في نظر الإسلام لمعرفة ما تسوس به الأمة أمورها , مما لم يرد في المصادر الشرعية ويحتاج إلى اجتهاد, ولذلك ينبغي أن يعتمد في الشورى على أصحاب الاختصاص والخبرة في المسائل المعروضة التي تحتاج إلى نوع من المعرفة ففي شؤون الدين والأحكام يستشار علماء الدين وفي شؤون العمران والهندسة يستشار المهندسون , وفي شؤون الصناعة يستشار خبراء الصناعة , وفي شؤون التجارة يستشار خبراء التجارة , وفي شؤون الزراعة يستشار خبراء الزراعة وهكذا وهنا لابد من توجيه الأنظار إلى أنه من الضروري أن يكون علماء الدين قاسماً مشتركاً في هذه الشؤون , حتى لا يخرج المستشارون من تقرير السياسات المتنوعة عن حدود الشريعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق