المداهنة في الحق من صفات المنافقين. إذا سمعت من يطعن في الإسلام، أو في صلاحية الشريعة أو في القرآن الكريم أو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت قادر على الرد ثم لاينته وسكت فقد داهنته. لا تداهن في الحق، فالحق والباطل لا يلتقيان في منتصف الطريق. أهل السياسة ربما يتنازلون عن بعض رؤاهم السياسية فيتنازلون للالتقاء مع خصومهم، وهذا مقبول في وجهات النظر والاجتهادات السياسية، أما حين يمس الأمر شريعتنا وديننا وقرآننا فلا تساوم ولا تتخلى عن أي جزئية، فعقيدتنا كاملة متكاملة.
المداهنة مأخوذة من الدهن الذي تدهن به الأشياء لتلينها، فالمداهنة هي الملاينة. هناك فارق كبير بين المداراة والمداهنة. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ "والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة : التلطف بالإنسان لتستخرج منه الحق أو ترده عن الباطل. والمداهنة : التلطف به لتقره على باطله ، وتتركه على هواه".
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه! فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة متى عهدتني فحاشاً؟! إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره".
فالنبي صلى الله عليه وسلم دارى الرجل رغم تضجره منه حين استأذن عليه وزاره في بيته لكنه لم يداهنه ولم يقره على باطل، قال ابن حجر في الفتح نقلاً عن القرطبي: والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معاً وهي مباحة وربما استحبت. والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا. فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه لحسن استقباله وطيب لقائه والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق وفعله معه حسن عشرة.
أحيانا تتكلم مع زميل أو جار لك تريد أن تدعوه إلى الله، وأنت تعرف من سيرته أنه في غفلة شديدة وأنه تارك للصلاة وغيرها من العبادات، وربما تلتقي به وهو يدخن، فمن مداراته أنك لا تكلمه في حرمة التدخين، وإنما تكلمه في أصول الإسلام، في الإيمان بالله ورسوله وتكلمه عن الآخرة.. ولكنك في نفس الوقت لا تقره على تدخينه ولا تقل له مثلا "التدخين أمره بسيط ولا بأس به"، وإن سألك عن حكم التدخين فلابد أن تبينه له صريحا وواضحا. إذا قال لك شخص: الشريعة لا تناسب العصر الحديث أو الاقتصاد الإسلامي لا يتواءم مع النظام المالي العالمي، فإن كنت لا تعرف الرد على هذا فأنت مقصر في دينك، وإن كنت تعرف وتسكت أو تهز رأسك إقرارا فأنت مداهن، إلا إذا خشيت أن يؤدي إنكارك إلى منكر أكبر.
ولقد حفظت لنا السيرة المطهرة صورا رائعة لثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق وعدم قبوله أي مساومة أو مجاملة أو ملاينة فيه، وإن كان بعيدا عن الحق ألين الناس وأحسنهم خلقا وأشدهم حياء. فقد اعترضه سادة قريش يوما وهو يطوف بالكعبة، فقالوا: يا محمد , هلم فلنعبد ما تعبد , وتعبد ما نعبد , فنشترك نحن وأنت في الأمر. فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه , وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه ! فأنزل الله تعالى فيهم (قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون) إلى آخر السورة حسما لكل مساومة على الحق. وفي مناسبة أخرى أرسلت قريش عتبة بن ربيعة ليفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصل معه إلى حل وسط توافقي (!)، فقال له "يا بن أخي. إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت إنما تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا , وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه , فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ! "، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه بأدبه الرفيع وإقباله عليه برغم سذاجة العرض المقدم، ولكنه يعطيه الفرصة كاملة، وهو – صلى الله عليه وسلم – واثق من الحق الذي معه، فقال "أقد فرغت يا أبا الوليد ؟" قال: نعم. قال "فاستمع مني". قال: أفعل، فقرأ عليه فواتح سورة فصلت، حتى إذا بلغ قوله تعالى "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود"، فزع عتبة وقال "أنشدك الرحم أن تكف".
لا تداهن في الحق، لأنك إذا داهنت المنافق والفاجر شك الناس في كلامك وسقطت دعوتك، إن داهنت الذين يكيدون للإسلام وشريعته أربكت الناس وربما شجعتهم على الباطل بسكوتك عنه أو إقرارك له. عندما يتصل عالم أزهري بممثلة معروفة بتمثيلها لمشاهد محرمة تدعو إلى الرذيلة، فيثني عليها بأنها "عفيفة مصونة" وأن تمثيلها من البيان الذي علمه الله تعالى للإنسان، هذه مداهنة قبيحة قد يسول بها الشيطان لفتيات أن يقتدين بها، وفات ذلك العالم الأزهري أن ينصحها ويبين لها خطورة هذا العمل الحرام الذي تتكسب منه. عندما يصمت سياسيون وعلماء على استباحة الجيش الفرنسي الغاشم لحرمات مالي المسلمة ويضع نفسه حكما في نزاعات داخلية، فهذه مداهنة تشجع أهل الباطل على استباحة المزيد من أراضي وأعراض المسلمين.
استعن على دعوة الناس بمداراتهم، ابذل من دنياك من أجل دينهم، لكن حذاري أن تبذل الدين لدنياهم، داري ولا تداهن. إذا قال لك أبواك شيئا لا تقره ولا توافق عليه، فقد تسكت مجاملة لهما ومداراة ولا بأس بذلك. أما إن قال لك رئيسك في العمل نفس الشيء فوافقته، فقد داهنته ونافقته. لو طلب منك صديقك قرضا فأعطيته مواساة له ومجاملة، فهذا مستحب ، لكن إذا طلب رئيسك في العمل قرضا فاحذر أن تعطيه نفاقا له، ودقق في نيتك فالفرق أحيانا –أو كثيرا- ما يكون دقيقا. المؤمن يجامل ويداري ويلاطف واللئيم يداهن وينافق.
وقد روى البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "مثل الْمُدهِنِ في حدود الله والواقع فيها ، مثل قوم استهموا سفينة ، فصار بعضهم في أسفلها ، وصار بعضهم في أعلاها ، فكان الذي في أسفلها يمرّون بالماء على الذين في أعلاها ، فتأذّوا به ، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا ما لك قال تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم". وفي الرواية الأخرى عند البخاري: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)، قال: اي لا تداهنوا. وقال الله تعالى (ودوا لو تدهن فيدهنون)، قال ابن عباس فيها: ودوا لو تكفر فيكفرون.
ونقل الزمخشري في الكشاف رسالة قوية مؤثرة، نصيحة أسداها صديق للإمام الزهري برغم علو قدره وإمامته في الدين، لما رآه يكثر من الدخول على السلاطين الظلمة، فخاف عليه وكتب له يقول:
"عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك: أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم اللّه بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال اللّه سبحانه "لتبيننه للناس ولا تكتمونه".
واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخص ما احتملت: أنك أنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيك إلى ضلالهم يُدخلون الشك بك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال اللّه فيهم "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً".
فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء والسلام".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق